قال: يا ابن عباس: أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ: (بارِئِكُمْ .)
قال:توبوا إلى خالقكم.
قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت تبعا وهو يقول:
شهدت علـــى أحمد أنّـــــه
رسول من الله باري النّسم
(المعاني) بَارِئِكُمْ الجذر: برا الأصل: بَارِئ معناها بالإنجليزية: your Creator
· بارئِكُم:خالقكم
· برأأصل البرء والبراء والتبري: التقصي مما يكره مجاورته، ولذلك قيل: برأت (قال الصاغاني: وبرئت من المرض برءا، وأهل الحجاز يقولون: برأت من المرض برءا، وكلهم يقولون في المستقبل يبرأ انظر: العباب (برا) ) من المرض وبرئت من فلان وتبرأت وأبرأته من كذا، وبرأته، ورجل بريء، وقوم برآء وبريئون.
************
البارئ هو: المقدر للأشياء والمظهر لها. يقول الحق جلّ جلاله: واذكروا يا بني إسرائيل حين قالَ موسى لِقَوْمِهِ لما رجع من الطور،ووجدهم قد عبدوا العجل:يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وبخستموها بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ إلاهكم، فَتُوبُوا إِلى خالقكم الذي صوركم في أحسن تقويم، فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بهدم هذه البنية التي ركبتها في أحسن صورة، فبخستموها، ولم تعرفوا قدرها، فعبدتم أبلد الحيوان، الذي هو البقرة. من لم يعرف حق النعمة فحقيق أن تُسترد منه.
***********
الإشارة: ما قاله سيدنا موسى عليه السلام لقومه، يقال مثله لمن عبد هواه،وعكف على متابعة دنياه: يا من بخس نفسه بإرخاء العنان في متابعة هواها، حتى حرمها من مشاهدة جمال مولاها، تُب إلى ربك، وانتبه من غفلتك، واقتل نفسك بمخالفة هواها، فلعلها تحيا بمشاهدة مولاها، فما دامت النفس موجودة، وحظوظها لديها مشهودة، وآمالها ممدودة، كيف تطمع أن تدخل حضرة الله، وتتمتع بشهود جماله وسناه؟!
إنْ تُرِدَ وَصْلَنَـــــا فَمَوْتكَ شَرْطٌ
لا يَنَالُ الوِصَالَ مَنْ فيــهِ فَضْلَهْ
الكلمة جاءت مرتين،فى آية البقرة 54: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .وجاء البارئ اسما من أسماء الله تعالى الحسنى فى آية الحشر 24: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) .
كما جاء منه الفعل المضارع فى آية الحديد 22: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) .
ومن غير المهموز، جاءت(البرِية)مرتين في آيتي البينة: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ *إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ(7) .
وفى غير معنى الخلق جاءت المادة فى البراءة والتبرؤ والتبرئة ومادة(برأ)فى مقاييس اللغة أصلان إليهما ترجع فروع الباب: أحدهما الخلق يقال برأ الله الخلق، والباري جل ثناؤه.
والآخر التباعد من الشيء ومزايلته .
وتفسير البارئ فى المسألة، بالخالق يبدو قريبا.
وقاله الطبرى فى تأويله:أي إلى خالقكم. وهو من برأ الله الخلق يبرؤه فهو بارئ، والبرية الخلق فعيلة بمعنى مفعولة غير أنها لا تهمز. . لولا أن آية الحشر جمعت بين(الخالق البارئ المصور)ثم إن فعل الخلق يجىء فى القرآن مسندًا إلى الله تعالى فى أكثر من مائة وستين موضعا، ومعها(خَلْقُ اللَّهِ)و(خَلْقِ الرَّحْمَنِ)، سبحانه(خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ)،(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ).
فهل من فرق دلالة بين الخالق البارئ؟
ذكر الراغب أن " البارئ": خُصَّ بوصفه تعالى.
والزمخشرى فسر "الخالق البارئ"فى آية الحشر فقال: الخالق، المقدر لما يوجده،البارئ: المميز بعضه عن بعض بالأشكال المختلفة.
ومثله فى(البحر المحيط)لأبي حيان. ذهب ابن الأثير إلى وجه آخر فى الفرق بين الخالق والبارئ،قال:فى أسماء الله تعالى البارئ. وهو الذى خلق الخلق لاعن مثال. ولهذه اللفظة من الاختصاص بخلق الحيوان، ما ليس لها بغيره من المخلوقات، وقلَّما تستعمل فى غير الحيوان،فيقال:برأ الله النسمة، وخلق السماوات والأرض(النهاية) .
وهذا الوجه الدقيق من التمييز بين الخالق والبارئ هو ما يؤنس إليه استقراء ما فى القرآن من آياتهما،وتدبر سياقها:فالخلق شامل لكل شيء، سبحانه خلق السمواتِ والأرض وما بينهما. وكلمة " بارئكم " الخطاب فيها لقوم موسى، و" البرية " فى آيتيها بسورة البينة،متعلقة بالكفار والمؤمنين:شر البرية وخير البرية.
لكن آية الحديد، يتعلق فيها الفعل " نبرأها " بـ(ما أصاب من مصيبة فى الأرض ولا فى أنفسكم)، أعني أنها فى غير الحيوان.
ولعل ابن الأثير نظر إليها فاحترز من التعميم والإطلاق فى(برأ)بقوله: وقلَّما تستعمل فى غير الحيوان. والله أعلم.