(1)
يقال في أمثالنا: "البعيد عن العين بعيد عن القلب".
والسؤال: هل ينطبق ذلك على الشخصيات الأدبية، بمعنى أن الشخصية التي تظهر في الأحداث هي العاملة المؤثرة فقط، وتلك التي تغيب عن الأحداث تكون غائبة؟
والجواب في وضوح : لا.
كيف؟
إن هذا المثل ينطبق على غير المؤثرين في حياة المرء، أما المؤثرون فهم في حبة القلب غابوا أم حضروا، وُجدوا في المكان ذاته أم لا. فمثلا، الابن إذا غاب هل تمحى ذكراه من القلب؟ والصاحب إذا انتقل في المكان هل يذهب تأثيره؟ و... و... إلخ.
وكنت أكتب في رسائلي إلى من كنت أراسلهم نهاية الرسائل "سلامي إلى من تحملهم داخلك، ويحملونك دواخلهم"؛ إيمانا مني بأن أثر المرء يستمر بغض الطرف عن وجود صاحبه واقعا أم لا.
وهذا معنى محسوس واقعي مشاهد تستطيع استقراءه في حياتك وحياة من حولك، فهل ينتقل ذلك إلى واقع الأعمال الأدبية؟
(2)
إن الشخصيات في الأعمال الأدبية تماثل تلك في الحياة من انقسامها شخصيات رئيسة وأخرى ثانوية تابعة حسب قربها من الأحداث وتأثيرها فيها دفعا وتغييرا وتطويرا، وتكون الرئيسة محل اهتمام الأديب فيرسم جوانبها ويستجلي سماتها، وتنمو مع الأحداث و... و... إلخ، أما غير الرئيسة فلا يهتم بها الاهتمام نفسه.
هذا مسلم، لكن السؤال هو: كيف تكون الشخصية الرئيسة شخصية رئيسة؟ أيكون ذلك بظهورها ذاتا في كل الأحداث؟ أم يكون بظهورها تأثيرا في الشخصيات التي تظهر في الأحداث؟
والجواب يكون بهما معا، أو بأحدهما حسب اختيار الأديب وحسب زاوية رواية الأحداث؛ ففي وجهة نظر المتكلم يكون الشخصية الرئيسة حاضرة في كل الأحداث لأنها هي الراوية، وفي وجهة نظر الغائب قد يكون الحضور الشخصي في كل الأحداث أو معظمها وقد يكون الحضور التأثيري.
وهل يكون ذلك مرتبطا بنوع أدبي أكثر من نوع آخر؟
لا أظن ذلك.
(3)
السابق يتصل بالشخصيات العادية في مختلف أجناس الأدب، لكن هل يكون الأمر ينطبق على الأعمال الأدبية التي يكون فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصية أدبية؟
وجواب كل مسلم لا يكون إلا "لا" سواء أكان أديبا أم ناقدا أم قارئا؛ فالرسول لا يكون ثانيا في أي سياق يكون حاضرا فيه، بل يكون الشخصية الأولى سواء أكان في الحدث أم كان غائبا عن الحدث.
لماذا؟
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مصدر القدوة والأسوة، يقول تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } [آل عمران: 31، 32]. وغير ذلك من الآيات.
فلو كتب أديب عملا أدبيا جمع بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره فلا ينبغي أن يكون الرسول في المرتبة الثانية.
لماذا أقول ذلك مع وضوح هذا المعنى؟
لأن هناك من كتب عن السيدة خديجة رضي الله عنها وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم عملا لم يحافظ على هذا الترتيب.
كيف؟
في قصة السيدة خديجة المقررة على الصف السادس الابتدائي يظهر ذلك جليا واضحا.
كيف؟
(4)
(يتبع)
رد: هل يكون رسول الله شخصية ثانية في العمل الأدبي؟
(4)
سأنقل مما قاله الأستاذ أحمد محمد صقر موقفين قبل الرسالة وموقفين بعد الرسالة:
أولا- قبل الرسالة
(أ)
ص51 وص52 على طوله، ولن أعلق عليه ولن أشير إلى عدمية دليل كون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان من أساطين مكة:
"قالت خديجة في جد:
- ... فلك في مكة من العمل ما لا يدع وقتا للرحيل.
فسألها محمد باسما:
- أي عمل تعنين يا بنة العم؟
قالت في رفق وحنان:
- مكة كلها تتطلع إلى رأيك ومشورتك، ومكان الرياسة فيها يناديك، ويفتح ذراعيه لك، ورجال مكة سيفسحون لك؛ لتأخذ ذلك المكان الذي خلقت له.
- سأفكر يا بنة العم، وإن كان الأوان لم يحن، فما زلنا في أول الطريق يا خديجة.
... وقد أفسح رجال مكة لمحمد مكانا بينهم، وأصبحوا يستشيرونه في أشد أمورهم تعقيدا ثقة بذكائه وحكمته وبعد نظره، ويجعلونه موطن أسرارهم ومستودع أماناتهم.
إذا جلسوا للأمر العظيم دعوه، وإذا قاموا إلى مكرمة لم يفتهم رأيه، وكلما انفسح له مكان في وسط الرؤساء أحست خديجة بالعزة، وتمنت أن يفسح له مكان أرفع منه حتى يكون سيد مكة كلها".
(ب)
وسأنقل من ص56 مشهد ما بعد موت القاسم.
يقول الأستاذ أحمد محمد صقر:
"فانفلق قلب خديجة نصفين، ودارت بها الأرض، وتذكرت زوجها فتجلدت ليتجلد، وحبست دموعها في عينيها وقلبها يشتعل، لكنها رأت عينيه تدمعان فدمعت عيناها، وقالت وهي تنظر إليه في إشفاق:
- قضاء الله يا محمد، ولا راد لما قضى الله! ما بخلنا بجهد ولا مال، وهل في كان في أيدينا أن نرد القاسم وقد اختاره ربه إلى جواره؟
ثانيا- بعد الرسالة
(أ)
ورد ص107 زمن الحصار:
"وزاد نشاط أبي جهل المشرف على الحصار، ولم يعد يهدأ أبدا، يدور صارخا مهددا، يقول بأعلى صوته محذرا:
- سوف أفسد على خديجة كل تدبير! سوف أحكم حلقات هذا الحصار عليها قبل سواها، ولن يستطيع أحد من أقاربها أو أتباعها أن يخترق هذا الحصار".
(ب)
ثم أكد هذا المعنى ص 109 بعد ضبط أبي جهل حكيم بن حزام، فقال: "وأبو جهل يصرخ ويحاول التتخلص من قبضته، ويصيح في في رعدة قائلا:
- خديجة! خديجة!
- خديجة من وراء كل تدبير، سنقتل خديجة وآل خديجة!".
(ج)
ثم أكد ذلك على لسان أبي لهب ص117 وص118، ولن أورد النص لأنه يؤكد السابق.