سنوات تمضي وأيام تتوارى خلف غيوم السنين السوداء ، ستون عاما ونيف ، والعمر كأوراق الأشجار تتساقط يابسة من رزنامة الزمن ، ستة عقود أصبحت مجرد ذكريات ملونة بشتى ألوان الشقاء و البؤس ،أصبحت مجرد أرقام في قائمة منغصات الزمن الذي عبر وولى ، وتركنا أشلاء مبعثرة في ساحة معركة ، سيكون الموت هو الرابح الأزلي فيها.
ستون عاما من الصراع مع الخوف والاحباطات وسوء المصير.ستون عاما من الأمل والألم والفقر والحرمان والتعاسة .
ستون عاما والسراب يلفني والأشباح والعيون الملأى بالشر تطاردني دون توقف ، تتعاقب السنوات وتغيب شموس ، وتغرب شموس، وتولد الأيام ولا شيء فيها جديد.
ما يعزينا في هذا المشوار ، أن كل شيء في الطبيعة يكرر ذات السيمفونية ، من الأرض تنبت الأشجار وتتسامى نحو السماء ثم تموت ولكنها تموت واقفة، ومن رحم الأم يولد الأطفال ، ويكبرون ويحلمون، ثم تبتلعهم الأرض مهما طال بهم العمر
ها أنا الآن على حافة هاوية العمر، احمل تحت إبطي تاريخ حافل بالشقاء والبؤس والأحلام الوردية، التي تلاشت معي على صخرة الحياة ، وكأن شيئا لم يكن .
ويصح قول الشاعر في هذه المناسبة :
كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهن قرنه الوعل
هي الحياة هكذا ، نحت في الصخر ، تعب، و شقاء ، وأحلام وآمال تتلاشى على صخور الحياة .
العمر يتساقط فوق راسي كالجمر، يحرقني من دون توقف، ويميتني من دون توقف .
ليس الموت هو عندما ندفن تحت التراب ... لا هناك موت أخر بل هناك أنواع من الموت
نحن نموت كل يوم ألف مرة ، نموت بالفقر، نموت بالظلم ،نموت بالأغلال والقيود، نموت بالعبودية ،نموت بالاستغلال، نموت بالفساد ،نموت بقلة الضمير، نموت بامتهان الإنسان للإنسان ، نموت بموت الأوطان ، ولا نشعر، بل ربما نشعر، ولكن نتحاشى ذكره، ونهرب من هاجسه إلى الأمام باتجاه الهاوية
هذا شعور المتشائمين ،نعم ، إنني متشائم لأني أعرف الحقائق التي يحاول البعض تحاشيها خوفا من أن تجرفهم العاصفة .
هناك عشرات العيون في داخلي ترى لا ما لا ترونه ، وتخترق الرؤية إلى ما وراء الأحداث التي تعبر بنا ،هالكة ممزقة ، كأنها الطاحونة، تطحن أحلامنا، فلا يبقى منها شيء.
أين الأجيال التي سبقتنا ،أين تلك اليد الرحيمة والقلب الواسع الذي احتضننا بصغرنا، والتي رعتنا حتى كبرنا ،التي دفعت عنا الأذى والشر ، أين ذلك الهمس الحنون الذي يمس أرواحنا من الداخل ، فننسى ما نحن فيه من قهر وجوع ومرض ، وننام بأمن وطمأنينة، كله إلى زال، كما نحن وكل الأشياء إلى زوال.
لقد أصبحت ألان رجل سراب، أخشى أن أعلق في فخ رزيل العمر، ولا من يعين ولا من يرحم ويمد يد العون ، إلا الذي عليه نتكل، وتجربتنا معه ليست مشجعة .
أنا الآن في غرق مستمر تحت بحر يبتلع كل من يلامسه، لا تظنوني واقفا كالأعمدة أو كشجر لا تهزها ريح .
إنني باختصار آيل إلى السقوط في كل لحظة ، كشجرة هرمة تعصف بها الريح .
أنا رجل ميت من الداخل، أنا مجرد هيكل معبأ بأدنى بمقومات الحياة ، يمشي الهوينى دون بوصلة ولا هدف ودون أن يعرف إلى أين ، والى متى .
ضحكتي لا تختلف عن " ضحكة الديك مذبوحا من الألم " . أنا هيكل متحرك ينتظر تفككه، كما يفكك الطفل لعبته ، أو كما تتساقط أوراق الشجر في الخريف
أنا رجل طحنته السنون وأنام دوما على بحر من الهموم .
أنا رجل محطم ،أنا الذي كان ذات يوما جبلا وأصبح اليوم مجرد أوراق صفراء في مهب الريح.
لاشك أن النهاية تقترب ، كاقتراب القطار من محطته الأخيرة، وها هي هامتي تنحني أمام القدر، وها أنا متكئ على عصاي ،اقرمط الخطا باتجاه المحطة الأخيرة، لقطار العمر
أرى بصري في كل يوم وليلة يكل وخطوي عن مدى الخطو يقصر
وكنت أمشي على رجلين منتصبا فصرت أمشي على أخرى من الشجر
انتظر الوداع ، وداعا يشبه أفول القمر، وسحب الشتاء التي تتوالد هنا وهناك ، وداع يشبه سرب الطيور المهاجرة باتجاه الأفق، يتوارى شيئا فشيئا خلف الأفق .