"نحن معشر الباحثين عن المعرفة، لا نعرف أنفسنا، إننا نجهل أنفسنا. وثمة سبب وجيه لذلك. فنحن لم نبحث عن ذواتنا – فكيف لنا إذن أن نكتشف أنفسنا بأنفسنا ذات يوم؟"
هكذا يبدأ نيتشه كتابه (جينالوجيا الأخلاق) والذى ترجمه اللبنانى حسن قبيسى بعنوان ذكى وهو (أصل الأخلاق وفصلها)، الجينالوجيا كمصطلح تعنى (علم الأنساب)، ويستخدم نيتشه المصطلح هنا ليتحدث عن نسب الآخلاق، الأخلاق هى قضية نيتشه الأساسية والتى ناقشها فى كتبه الأخرى إما بشكل أقرب للشاعرية كـ"هكذا تكلم زارادشت" أو بأشكال فيها حكم قصيرة متقطعة كـ"إنسانى إنسانى للغاية" و"ما وراء الخير والشر". الكتاب يعتبر متأخر نسبيا بالنسبة لأعمال نيتشه، كتبه عام 1887، وقبل ثلاث سنوات فقط من توقفه عن الكتابة. وهو أيضا كتاب فريد من نوعه بالنسبة لنيتشه، لأنه يحمل تحليلا مرتبا ومنطقيا بالنسبة لكتبه الأخرى، ولموضوع الأخلاق بشكل خاص. ولكنه مع ذلك لا يخلو من شاعرية.
الكتاب يتكون من 3 مقالات طويلة نسبيا وهى: "الخير والشر، الطيب والخبيث"، "الذنب والضمير المتعب وما شاكلهما"، و"ماذا تعنى المثل الزهدية".
من أول جملة فى الكتاب سنكتشف أننا أمام فيسلوف، أو قل مفكر مختلف، هو يضع ذاته موضع البحث مع الموضوع الذى يناقشه، وهذه مشكلته تقريبا مع كل الفلاسفة المحدثين الكبار الذين سبقوه "هيجل، كانط، شوبنهاور"، من حيث أنه كان يجد تورطا ذاتيا فى موضوعاتهم يؤثر على تحيزاتهم الفلسفية وإن كانوا هم يحاولون إنكاره.
هو يتحدث هنا مبدئيا عن ضرورة أن نعرف ذواتنا ونحن نناقش مشكلة فلسفية أساسية مثل "الأخلاق". فى المقدمة يحاول أن يشرح قصته مع قضية الأخلاق، واهتمامه بالبحث عن أصل الخير والشر، يقول إنه فى البداية وكشخص مؤسس لاهوتيا قرر أن الشر مصدره الله، قبل ما يفرق بين اللاهوت والأخلاق ويقرر أن مصدر الشر لا بد وأن يكون هنا فى العالم، وما دام هنا فى العالم فهو مسألة تتحرك، تتطور بالشكل الداروينى، هذا سيمحو عن الأخلاق ثباتها وقدسيتها، وبالتالى بدأت أسئلته الأخلاقية يجاب عليها بالشكل الذى سنراه فى هذا الكتاب. يشرح نيتشه أيضا كيف أن بحثه عن أصول الأخلاق وأصول مفاهيم أخلاقية كالشفقة وإنكار الذات والتفانى، تلك المفاهيم التى احتفى بها شوبنهاور يؤدى إلى إثبات أنها عقبة فى وجه البشرية وهى التى تؤدى بها وبنا إلى العدم الذى هو سمة العصر والذى يصفه نيتشه بالعارض المزعج.
بشكل عام لو كانت هناك إشكالية أساسية فى هذا الكتاب، فهى وضع الأخلاق التى نعتبرها شيئا بديهيا، على مستويات الدين والمجتمع وغيرها، موضع البحث، ولنر أين سيؤدى بنا هذا البحث. المسألة ليست درامية لأخجل من الاستباق، لكن نيتشه وهذا معروف ينتهى ببحثه إلى الكفر بالأخلاق بمعناها الثابت والشائع لدينا وسنكتشف أسبابه لذلك.
التوقيع
ذات كأس، مترع بالغروب، وعلى حافته تتسكع شهقة ليل .
من بداية المقال الأول الذى يبحث أصل الخير والشر ينتقد نيتشه من يطلق عليهم علماء النفس الإنجليز، وهم ببساطة أصحاب الاتجاه النفعى، هم كانوا يرون أن الفعل الطيب اعتبر كذلك من قبل هؤلاء الذين يتلقونه، يعنى من تلقوا النفع من الأفعال الطيبة سموها كذلك ثم تم نسيان أصل المديح المباشر، لتصبح هذه الأفعال طيبة فى ذاتها. ولكن هذه الفكرة مرفوضة عند نيتشه، فالفعل الطيب من سماه هكذا هم من يفعلونه، وسنرى أن الفاعل دائما هو من يسمى عند نيتشه، هؤلاء هم من قاموا بالأفعال وقرروا أن هذه أفعال طيبة، على حد تعبيره "أفعال من الدرجة الأولى" فى مقابل الأفعال المنحطة والمبتذلة والسوقية. هذا سيكون مبررا لنيتشه نفسه ليقول إن من يصنع اللغة هم أصحاب السلطة. فى النهاية فأصحاب السلطة وأصحاب الرفعة والمتفوقون من الناس هم من صاغوا تسمية طيب ونسبوها لأفعالهم السامية، التى سيحاول نيتشه فيما بعد إثبات أنها ليست متصلة بالأفعال غير الأنانية (الأخلاقية بالمعنى الشائع). كانت حجة نيتشه ضد النفعيين أن النسيان الذى يتحدثون عنه غير مقبول، فما دام هناك منفعة فالأحرى أن نتذكرها دوما لا أن ننساها.
نيتشه يقول إن ما جعله يفكر فى أصل الأخلاق، أو أصل الطيب والشرير من هذا المنطلق هو التحليل اللغوى، ونذكركم أن نيتشه كانت دراسته لغوية أصلا. إن أصل كلمة طيب فى مختلف اللغات كانت مرتبطة بالتميز والنبل. هذا ينطبق أيضا على اللغة العربية، نحن نقول مثلا: "فلان من أصل طيب"، ونحن نذكر مثلا من لسان العرب: "الطيب من كل شىء أفضله". فى مقابل الخبيث – والكلام الآن لنيتشه - الذى هو العامى والرعاعى والمبتذل. أخذ نيتشه يناقش هذا من منطلق المصطلحات الألمانية فى الكتاب. كلمة (سىء) فى الألمانية كانت تعنى قديما "بسيط"، أو "عامى".
ولكن الطبقات العليا كانت تضم أيضا طائفة الكهنة، وبينما النبلاء يتصفون بأنهم "أرستقراطية مقاتلة" يعشقون القتال والنشاط والحركة وتكون تصرفاتهم تلقائية، يميل الكهنة للكسل وتجنب القتال. ليحدث صراع بين النبلاء والكهنة حول من هو صاحب المرتبة الأعلى.
نيتشه ليس بعيدا عن ربط أفكار بعينها عن الأجناس، فإذا كان الجنس الآرى هو الجنس الأعلى؛ الجنس الفاتح والمقاتل، فالأعراق الداكنة سوداء الشعر هى التى تؤدى – وهو لم يؤكد – إلى النكوص نحو أفكار الاشتراكية وغيرها من الأفكار البدائية. وهو أحال فكرة قلب القيم بشكل عام إلى اليهود "الجنس الكهنوتى".
التوقيع
ذات كأس، مترع بالغروب، وعلى حافته تتسكع شهقة ليل .
يصف نيتشه اليهود بالشعب الكهنوتى. ولينتصر فى صراعه مع أعدائه، وهو لا يستطيع مواجهتهم بطريقة مباشرة، قام بعملية انتقام روحى، مضمونه هو قلب القيم. عرفنا أن كلمات مثل طيب ونبيل وقوى تعنى أشخاص بعينهم. اليهود قرروا أن المساكين والفقراء والعجزة هم الطيبون، أما الأقوياء والنبلاء فعلا فهم الطغاة والجشعين وبالتالى هم المنبوذون والهالكون، ليتبلور الدين بمعناه القريب منا.
حدث توهم أن هذا حب للإنسانية، ولكن نيتشه يرى أن هذا الحب يستهدف نفس المكاسب، النصر والفتح ولكن بطريقة أخرى.
مهم أن نعرف أن نيتشه عندما يتحدث عن اليهودية فهو بشكل ما يتحدث عن التقليد اليهودى المسيحى بصفة عامة، حيث المسيحية فى نظره التى تتبلور فى شىء يحتقره: "إله معلق على خشبة" هى امتداد لليهودية، وهذه غالبا حجة لصالحه عندما يتهم بمعاداة السامية، فإذا كانت معاداة السامية واليهودية منطلقة غالبا – ووفقا للتاريخ – من أفكار مسيحية فهذا غير متحقق عند نيتشه. ورغم ما يبدو من احتقار نيتشه لهذه القيم الكهنوتية إلا أنه يرى أن الوجود الكهنوتى هو الذى وفر للإنسان عمقه وخبثه وهذا هو ما يجعل الإنسان متفوقا على سائر الحيوانات.
التوقيع
ذات كأس، مترع بالغروب، وعلى حافته تتسكع شهقة ليل .
العبيد يحقدون على الأسياد الذين يحصلون على كل شيء بقوتهم، هذا الحقد يصل لمرحلة توليد قيم مختلفة، فهم ينتقمون من الأسياد، ولكن هذا الانتقام لا يكون عنيفا أو واقعيا بقدر ما يكون متخيلا. الأخلاق الأرستقراطية تولد من تأكيد الذات، وهذا مفهوم عزيز على نيتشه، ولكن فى المقابل فأخلاق العبيد تولد عن طريق رفض كل ما هو مختلف عنها؛ إنها تحتاج لعالم مواجه لها، تحتاج إلى أن تكون رد فعل.
النبيل هو شخص يتمتع بالصدق والصراحة والنشاط الفعال، لا يفكر فى سعادته لأنه يمارسها فعليا، فى حين أن العبد الحقود ليس صريحا ولا مخلصاـ يميل للطرق الخفية، والسعادة عنده مظاهرها هى الخمول والراحة والامتناع عن العمل. النبلاء نشيطون بالقدر الذى ينسون فيه الإساءات التى توجه إليهم. لا يحتفظون بها ليولد لديهم حقدا دفينا.
نيتشه يرى أن أخلاق العبيد هذه هى السبب فيما يولد نفورنا الحالى من الإنسان، وكونه بالنسبة لنا "علة شقاء وألم" وهذا النفور سببه هو فقده لكل ما يوحى بالخشية، واعتبار أن هذا الإنسان هو الغاية ونهاية التاريخ.
يحاول نيتشه أن يبرر ما نتعاهد الآن على أنه شرور، فيقول إن الحملان ترتعب من الطيور الجارحة، ولكن هذا ليس مبررا للحقد على الطيور الجارحة لأنها تروع الحملان. "إن مطالبة القوة بأن لا تتجلى بما هى قوة... أمر لا معنى له"، فهذه هى طبيعة الطيور الجارحة، بالتالى لا يفصل نيتشه بين القوة والإرادة التى تقوم بها، ويرى أن هذا الفصل خاطئ.
مهمة قلب القيم التى يقوم بها العبيد تؤدى لتوليد معانى مختلفة لمفاهيم الطيب عند الأسياد، فالعبيد يجعلون من العجز طيبة، ويجعلون من الانصياع طاعة، والجبن صبرا، هم يزعمون أن الله اصطفاهم وكلما اختبرهم أكثر يكونون أقرب إليه. أما كل ما سيواسيهم بشكل عام فهو يوم الحساب.
الفكرة عند نيتشه أن هؤلاء الضعفاء يريدون أن يكونوا أقوياء بدورهم، وبالتالى فهم يتصورون أنهم سيصلون لمُلك ما فى يوم من الأيام. يسخر نيتشه ويقول إن دانتى كان عليه أن يكتب على باب جحيمه "أنا أيضا أوجدتنى الكراهية الأبدية" بدلا من "أنا أيضا أوجدتنى المحبة الأبدية"، ويستشهد بأقوال لآباء مسيحيين يتشفون برؤية الكافرين فى االجحيم، كما يقول توما الإكوينى: "حتى يزداد الأبرار المؤمنون غبطة فى نعيمهم، ويشكروا الله كثيرا على هذا النعيم، فهو يمكنهم من التطلع إلى آلام الكافرين".
التوقيع
ذات كأس، مترع بالغروب، وعلى حافته تتسكع شهقة ليل .
الصراع بين الخير والشر بالمفاهيم النيتشوية يمكن أن تتلخص رمزيته فى الآتى "روما ضد ياهودا وياهودا ضد روما"، فروما هى الممثل لذروة المجد والقوة وهى الرمز لقيم السادة فى مواجهة ياهودا. ولكنه يرى أن الصراع بين روما وياهودا انتهى بانتصار اليهود، فالناس الآن ينحنون أمام أربعة يهود "المسيح"، "بطرس الصياد"، "بولس صانع الخيم"، و"مريم". وانتصار ياهودا كان يتجدد سواء بحركة الإصلاح البروتستانتية أو بالثورة الفرنسية، فى حين تظهر استثناءات فى المقابل لسادة متفردين كظهور نابليون فى فرنسا.
التوقيع
ذات كأس، مترع بالغروب، وعلى حافته تتسكع شهقة ليل .