كم كانت كبيرة ,, شجرة التوت تلك ,وهي تتوسط قريتنا كمارد من بطن الزمن ,, حيث تتوزع البيوت البسيطة حولها وكأنها دجاجة , تضم صيصانها تحت اجنحتها ,, شامخة بمحاذاة نهر القرية .
حتى اذا جاء الربيع جادت بثمار التوت السوداء كعناقيد عنب مبكّر.
كانت ملعبنا ,وظلنا الوارف ,,قديمة قدم القرية حتى ان كبار السن لا يعرفون من زرعها ومتى ,,مضيافة ,,فمئات الطيور تعود اليها في المساء لتقضي ليلتها ,, وقد تبني اعشاشها ايضا , فكأنها مجمع سكني من التي نراها في المدن اليوم كقفير نحل تسكنه عشرات العوائل ,,يا الله , كيف يعيش هؤلاء الناس متقاربين بل كيف يتشاجرون مع نسائهم في هذه الزحمة من الناس .
في الصباح كان يخرج بنعاجه الى المراعي القريبة , حتى اذا حل الظهر عاد بها ليتخذ من ملعبنا مكان قيلولة لنعاجه ,, والويل لمن يقترب منها , وهي نائمة بتشكيلة غريبة يحرسها كلبان كبيران , احدهما اسود كبير ,, لكنه طيب لا يؤذي احدا بل يكفي ان يزمجر بارزا انيابه لنهرب بعيدا , كان اسمه( بارود )شرسا حتى انه ذات يوم اخذ عباءة احدى النساء وهي تملأ جرتها من النهر ,,
الايام في القرى تمر بطيئة , فلا جديد , ليل ببطن نهار ,, الى ان جاء ذلك اليوم المليء بالأحداث ,, فقد عاد القطيع ذلك اليوم لوحده تحرسه الكلاب طبعا ,,لم يفطن احد للأمر , فلم يكن للراعي احد لا زوجة ولا اطفال ,, فلقد توفي الوالد مبكرا ,, وسارعت الوالدة هي الاخرى باللحاق به ,, ولم يفكر حينها بالزواج ,,فعاش كطير بري ,, واكثر ما يمكن ان ينطقه هو اهلا لمن يبادره بالتحية , واذا صادف وسأله : وكيف الحال فسيكون جوابه : وما شانك ؟ في اليوم الثاني خرجت النعاج وكأنها مبرمجة والكلبان اصبحا اكثر حساسية وتنمرا من ذي قبل بغياب الرجل ,, حل اليوم الثالث فخرجت القرية تبحث عن الرجل , دون جدوى والرابع والخامس ,فص ملح وذاب في بحر ,,قبل مغيب شمس اليوم السادس عاد ,يتوكأ على عصا وكأنه عائد من القبر ,, متعب ممزق الملابس , واثار الجوع والعطش واضحة على محياه وجراح سطحية على رقبته ووجهه نزفت ثم جمد الدم عليها ,,تحاشا نظرات السائلين ومد يديه الكبيرتين في النهر وغرف عدة غرفات شرب وغسل وجهه وراسه ثم اختفى خلف السياج تاركا الناس في حيرة كبيرة .
تكررت غيبات الرجل في كل اسبوع يختفي يومين او ثلاثة ثم يعود منهكا ,,من جديد ,,
اصبح الرجل يتصدر احاديث القرية ,,وتبعه بعض الفضوليين خفية فوجدوه يدخل بستانا قديما تركه اهله فاصبح كغابة مكتظة لا يدخلها الا الخنازير, وبعض الهاربين ,,شاع حديث في القرية انه تحدث مرة لاحد الصيادين , حين عيّره بانه مجنون ,, فأدعى انه متزوج من جنية تسكن ذلك البستان ,, وانها لا تسمح له بالمغادرة وبرقّتها وجمالها , تنسيه الأكل والشرب ,, وتغضب حين يهرب منها , لذلك لا يستطيع العودة الى بيته ,,
ذات يوم صحت قريتنا على نبأ موته , حيث وجده الصيادون متكورا في عشه الصغير وهو يحتضن جنيته الجميلة ,, بينما اغنامه كعادتها تخرج وتعود تحرسها
استاذي الفاضل
وانا اقرأ قصتك وبطلها الذي هو تراث
حقبة زمنية عشناها
لا زالت رائحة الاتربة التي تخلفها قطيع
الاغنام عند عودتها من الرعي حاضرة عندي
وعصا ابو علي الراعي خلفها يتهادى بسيره
المتمايل المميز وصوته الجهوري وهو يقول
لمن دخلت اغنامه بيته...عدوها رحمكم الله
شكرا اليك..كنت رائع التفاصيل..
حكايات القرية لها سحر ووقع على النفس خاص
وأنت أستاذ جودت ممن يجيدون تصوير القرية حتى يكاد القارئ أن يجزم أنه يراها رؤية العين
نظرا لفرادة تجسيدك الرائع للتفاصيل الدقيقة والمشاهد التي تبدو حية وحقيقية
دمت بخير وألق
أثبت النص مع الود والتقدير
أخي جودت الأنصاري
نصّ قصصيّ يضجّ بالأمكنة وما يصخب فيها من أحداث....
أستدعى فيه كاتبه شجرة التّوت بعناقيدها السّود وظلّها الوارف وهي تتوسّط بيوت القرية في شموخ
,وهي تتوسط قريتنا كمارد من بطن الزمن ,, حيث تتوزع البيوت البسيطة حولها وكأنها دجاجة , تضم صيصانها تحت اجنحتها ,, شامخة بمحاذاة نهر القرية .
حتى اذا جاء الربيع جادت بثمار التوت السوداء كعناقيد عنب مبكّر.
كانت ملعبنا ,وظلنا الوارف
والخير ينزّ من الأرض على أهلنا الآمنين والزّمن حافل بضجيج الاطفال وصخبهم البريئ
وقد جمح بنا الكاتب الى وجه من وجوه الحياة القرويّة البسيطةوصوّرها بأسلوب متقن أكسب المكان والقرية وشجرة التّوت حضورا أسطوريّا جعلها متحرّكة نابضة بالحياة أمام القرئ
,قديمة قدم القرية حتى ان كبار السن لا يعرفون من زرعها ومتى ,,مضيافة ,,فمئات الطيور تعود اليها في المساء لتقضي ليلتها ,, وقد تبني اعشاشها ايضا , فكأنها مجمع سكني من التي نراها في المدن اليوم كقفير نحل تسكنه عشرات العوائل ,,يا الله , كيف يعيش هؤلاء الناس متقاربين بل كيف يتشاجرون مع نسائهم في هذه الزحمة من الناس .
أحداث تخترق الزّمان والمكان في بطء لتحيلنا في تدرّج مدروس ومحسوب الى حكاية الرّاعي الذي لم يعد ذات يوم مع قطيعه الرّاعي . حتّى نكاد نجزم أنّ الكاتب منذ الوهلة الأولى والجملة الأولى في نصّه كان يمهّد الى هذا الرّاعي الذي تسرّب نحوه النّص لإستكمال أحداثه
الى ان جاء ذلك اليوم المليء بالأحداث ,, فقد عاد القطيع ذلك اليوم لوحده تحرسه الكلاب طبعا ,,لم يفطن احد للأمر , فلم يكن للراعي احد لا زوجة ولا اطفال ,, فلقد توفي الوالد مبكرا ,, وسارعت الوالدة هي الاخرى باللحاق به ,, ولم يفكر حينها بالزواج ,,فعاش كطير بري ,, واكثر ما يمكن ان ينطقه هو اهلا لمن يبادره بالتحية , واذا صادف وسأله : وكيف الحال فسيكون جوابه : وما شانك ؟ في اليوم الثاني خرجت النعاج وكأنها مبرمجة
والكلبان اصبحا اكثر حساسية وتنمرا من ذي قبل بغياب الرجل ,,
وكم لهذه الجملة من وقع في لجّة الأحداث المزعجة ....فموت الرّاعي ترجمته الكلاب بتنمّرها وحساسيتها...وهذا استنطاق رهيب لوقع الأحداث
ويستمرّ الكاتب في سرد للحدث والأحداث التي ارتابها أهل القرية في ظهور كئيب يلفّه الغموض والأسى للرّاعي
في اليوم الثاني خرجت النعاج وكأنها مبرمجة والكلبان اصبحا اكثر حساسية وتنمرا من ذي قبل بغياب الرجل ,, حل اليوم الثالث فخرجت القرية تبحث عن الرجل , دون جدوى والرابع والخامس ,فص ملح وذاب في بحر ,,قبل مغيب شمس اليوم السادس عاد ,يتوكأ على عصا وكأنه عائد من القبر ,, متعب ممزق الملابس , واثار الجوع والعطش واضحة على محياه وجراح سطحية على رقبته ووجهه نزفت ثم جمد الدم عليها ,,تحاشا نظرات السائلين ومد يديه الكبيرتين في النهر وغرف عدة غرفات شرب وغسل وجهه وراسه
ثمّ يتخلّص الى الفصل المذهل في نصّه لتشفّ الرّوح بفيضها في الكتابة من خلال تخيّر جدّ دقيق للمفردات واللّغة ...فالنّص هنا مرآة تسطع بكلّ مكوّنات القرية كفضاء يحتضنه الفقدان والغياب والموت وأساطير الجنّ والجنيّة في مخيال الرّاعي ووجدانه وهو ما كان له تأثير عميق في العلّو بروح ومكوّنات النّص هنا
تكررت غيبات الرجل في كل اسبوع يختفي يومين او ثلاثة ثم يعود منهكا ,,من جديد ,,
اصبح الرجل يتصدر احاديث القرية ,,وتبعه بعض الفضوليين خفية فوجدوه يدخل بستانا قديما تركه اهله فاصبح كغابة مكتظة لا يدخلها الا الخنازير, وبعض الهاربين ,,شاع حديث في القرية انه تحدث مرة لاحد الصيادين , حين عيّره بانه مجنون ,, فأدعى انه متزوج من جنية تسكن ذلك البستان ,, وانها لا تسمح له بالمغادرة وبرقّتها وجمالها , تنسيه الأكل والشرب ,, وتغضب حين يهرب منها , لذلك لا يستطيع العودة الى بيته ,,
ذات يوم صحت قريتنا على نبأ موته , حيث وجده الصيادون متكورا في عشه الصغير وهو يحتضن جنيته الجميلة ,, بينما اغنامه كعادتها تخرج وتعود تحرسها
الكلاب
فاختفاء الرّاعي محزن وموته أشدّ حزنا وكأن كلّ من في القرية تحوّل الى أشباح وظلال متراكمة فحتّى القطيع بنعاجه وكلابه أصبح بتحرّك بذاكرة الرّاعي يهتدي لطريق المرعى وطريق الزّريبة وسيّده في عداد الاموات...
الرّائع أخي جودت الانصاري
ما أروع هذا النّص وما أشدّ وقعه على المتلقي ...هو من النّصوص التي يصعب على القارئ تفاديه فأحداثه وصوره جاءت بشكل محزن فالأمكنة يا سيدي جغرافيتنا البديلة وذاكرتنا الحافلة بالأحداث وخرائط الرّوح التي ترتبط بالحكي الداّفق عن زوايا متحرّكة بما فيها في دواخلنا ....
جودت
تقبّل مروري المتواضع فما يهمّ الأمكنة يا سيدي يتنازع ذاكرتي لأن المكان هنا هو البطل الذي يروينا بعد فقد وغياب تماما كما روى الرّاعي هنا ورثاه...
اعذر سيدي الكريم تأخري لأنني أردت أن أعطي النص حقّه من القراءة والتأمل
ما أحوجنا أستاذ جودت إلى مثل هذه الحكايات في زحمة التكنولوجيا الخانقة
ونحن نقرأ هذا النص نعود إلى طفولتنا، براءتنا،أحلامنا،وحكايات الجدات تدغدغ حواسنا وأرواحنا وتهمس في آذاننا زمن النقاء والهواء الصافي المنعش وووووووووو
قصةا شتملت على مقومات القصة العربية وقد زاوجت فيها بين الاسطورة والواقع فلعب عنصر التشويق دوره
كما انها لا تخلو من السرد والوصف والحواروقد وظّفتهم بامتياز حتى أننا نعيش الاحداث بالصوت والصورة
أما اللغة فكانت لغة بسيطة ولكتها موحية وهذا ما يعرف بالسهل الممتنع
للاخت دعد
تحيتي سيدتي
لن اجافي الحقيقة ان قلت
ان مرورك كان مميزا بحق
وتاكدي اني ساضم تعليقك النقدي هذا الى
القصه ,, فقد زادها عمقا وجمالا
وتقبلي اعجابي بامكانياتك في التحليل
فشكرا لجميل المرور