يراقب ياسين سقف الغرفة، مسندا رأسه للوسادة في وضعية شاردة، تتردد عيناه بين تفاصيل السقف و بين علو النافذة، يمارس الغوص في الأشياء و في ما تحمله من ذكريات، يحاول قدر طاقته الضعيفة استنطاق الوجود الذي يحتويه، هو يعلم جيدا أن المثقف هو من يستنطق الجمادات ليخرج ما تختزنه من ذكريات و غموض يكتنفها ، فتولد عندها فرصة للإبداع، كما فعل نيوتن بتفاحته عندما أرشدته للعبقرية، يحاول أن يكون متعلقا بوسطه الضاج بالركود و التراجع يعطيه دينامكية و صخب الحضارة.
يعاوده الألم الذي أسلمه لغرفة في مستشفى حكومي مترف بالإهمال، الصداع كبيرو متقطع يزيد و يتقلص مثل اهتمام الممرضين و الأطباء، لم يكن الصداع ما يعنيه، رغم أن السكري الذي أدى به للإغماء و أدى به للنوم في هذه الزاوية المهجورة منذ أسبوع، كانت الوحدة في تلك الغرفة هي هاجسه هذه اللحظات، لا يكاد يستقيم للوقوف، يراقب بعينيه السقف في لا مبالاة بمن حوله.
يسمع قرع خطوات تقترب من أذنيه التي بدأت تألف هذا الوسط الجامد، تتزايد معلنة عن تغيير الأجواء الليلية في المستشفى، الفراغ و السكون المزدحم في رأسه يجعله يلاحق أي حركة منظمة أو عشوائية، الوحدة تجعلك تختلق وجود حركات و أصوات تعرف مسبقا أنها غير موجودة.
بمحاذاة الباب يسمع حديثا لا يهتم بمعانيه، مهتم فقط بكسر الصمت المحيط بسريره الصدئ. -سأدخله هنا. -ضعه بجانب النافذة، و حاول مراقبته في فترات الليل. دخل الممرض يدفع عربة المرضى ليضع شيخا كبيرا في السن، وضعه كما اشار إليه الطبيب تماما، ثم ولى نفسه للخروج غير عابئ بحالتهم. أصيب نوعا ما بخيبة أمل، كان يرجو أن يكون صديق غرفته شابا يعرف التحدث في شؤون الشباب، فالعجزة قلما يتحدثون، الرتابة عندهم مبدأ يتمسكون به للخروج من الحياة دون صخب.
سادت لحظات طويلة لم يتكلم أي واحد فيهما كلمة واحدة عدا كلمات الترحيب، ليستسلما للصمت و التفكير الغير المعلن.
مر النهار دون أي محاولة للتواصل بينهما، حتى إذا كان المساء و أذان العصر يعلن للناس غيابهم عن أنفسهم ليراجعوا صِلاتَهُم بخالقهم، أقبل الممرض ليعطي حقنة للعجوز، أمسكه و حوله قبالة النافذة، عندها تكلم الشيخ دون سابق إنذار:
-الدنيا فرصة للجمال، لا تعرف قيمتها حتى تمسك تذكرة السفر نحو الجهة الأخرى.
لم يستطع ياسين مقاومة إغراء العجوز للحديث، فحاول مسايرته في كسر الجمود، لم يمهله العجوز و واصل في شدوه:
-الحياة...(و أشار نحو النافذة) ليست مثلما تراه خلف هذه النافذة. فأسرع بالسؤال عما يوجد خارج الغرفة:
-ماذا يوجد في الخارج؟... -ليست كل النوافذ تؤدي إلى جديد.. فبعضها تلفظك للحياة و أخرى توصد من خلفك عندما تطرد منها، لذلك عليك أن لا تهتم بالثقوب و عمقها و ما خلفها و لكن ماذا يجب أن ترتدي لتعبر عنق اليأس، تلك هي طريقة العبور الوحيدة نحو الفضاء الجميل.
-لم أفهم قصدك؟
-ستفهمه عندما تعبر كهفك مثلما سأعبر ظل شجرتي.... (صمت قليلا) ..بعد حين .
تساءل في نفسه عن النوافذ، الكهوف و الطول الهندسي للظل التي يراها العجوز، و هل هناك نافذة غير تلك الواقفة أمامهم، تلك التي تشبه أصبعا يشير إليهم بالتحليق ،و يصدر إليهم النور في شكل زخات مطر هارب من غيمة جافة.
كل ما يتذكره هو ارتفاع ضغطه، و دخوله في غيبوبة لم يعرف كم دامت، أفاق في فراش في وسط غرفة ضاجة بالملل و البأس مثل هيأته، لا يستطيع الحراك تماما، و حديث العجوز لفته للنافذة التي لم يهتم بما وراءها، فراح يستحث العجوز لمواصلة تغريده، لأنه لا يستطيع الوصول إليها.
العجوز الذي تبدو من ملامحه قسوة الأحزان التي لم تمنحه فسحة كافية للفرح، التجاعيد البارزة في خديه و جبهته العريضة، تؤكد نظرية التطور التي أتى بها فرويد، و لكنها في الاتجاه المعاكس تماما.
واصل العجوز تعليقاته المبهمة عما يوجد في الخارج و كأنه يراقب مصيره:
-الأولاد في تلك الساحة يلعبون بعيدا عنا و عن تجاعيد أملنا العاجز. طفل يطارد فراشة و كأنه يلاحق أمنياته بالتحليق، و فتاة تحتضن زهرة تشبه لحد كبير فيروز عندما غنت للقدس أسطورتها زهرة المدائن، كذلك تلك الفتاة تراقص ورود الحقل و كأنها بلبل الطفولة.
صمت العجوز، متأثرا بالحقنة، و استجمع نفسا من أنفه العريض المنتصب عوض قامته المنحنية، هو كل رواسب الأمل الهارب من جسمه الذي يشبه الأطلال، و كأنه يعد نفسه لمحاضرة سيلقي بها للشاب، و أشار للممرض أن يتركه قبالة النافذة، أراد الممرض أن يقول شيئا:
-و لكنك...
أسرع العجوز بإسكات الممرض بنرفزة و صوت جهوري هو كل ما يملكه هذا الشيخ من قوة شبابه المضمحل. خرج الممرض و هو يتمتم في نفسه:
-غريب أمر الناس هذا الزمن.
أحس ياسين نوعا ما بروح تدخل لنفسه و رغبة للخروج و معاودة اللعب الطفولي، ثم سارع لاستفزاز الشيخ:
-أيمكن أن تحكي لي أكثر عن هؤلاء الأولاد و شقاواتهم، أنا عاجز عن الحركة منذ دخلت هنا.
تنهد الشيخ تنهيدة و كأنه كان يستجمع الهواء و الحياة في رئتيه ليواصل مراقبة الحياة و لو من خلال نافذة مهترئة.
-أمسك الطفل فراشته و أودعها روحه و راح يلاطف أجنحتها الغارقة في الألوان، الفراشة لا تحس بالخوف، تعرف جيدا أنها ستكون وليمة للبراءة، الفتاة قطفت الزهرة و هي تشتم عطرها و كأنها تتعاطف مع الربيع، بل هي تملأ روحها بالجمال، يقترب الطفل من الفتاة بخطوات قصيرة، يتوقف حينا و يمشي حينا، متردد و كأنه يعلم أنها منعطفات الخيبة.
-هل كلم الفتاة؟ .. قال ياسين.
-لم يكلمها، البراءة لا تعترف بالنفاق، تؤمن بالتصرفات الشفافة و الملامح، البراءة تتقن لغة العيون و الشفاه، إنه يبتسم لها و هي لا تملك لغة غيرها، فتغدق عليه بابتسامة أشبه ما تكون ضحكة.
-هل تراه يحبها؟ و هل يا ترى ستحبه؟ و هل تراهما ينجحان في صيانة حبهما؟
-ينظر إليها و إلى الفراشة، لقد أهداها فراشته، و لأنها تعرف جمال هديته تنازلت عن زهرتها و علقتها على صدره، الآن فقط تكامل الجمال و تعاطفت الكائنات معهم و راجت العصافير تحلق فوقهم، الأغصان تعانق الريح و تتمايل فرحا بحب بريء.
عندها صمت الشيخ و استسلم للنوم، و راح ياسين يغوص في نفسه و يكتشف إنسانيته و ينقب في منعطفات حياته التي لم يصادف فيها حبا مرة واحدة.
لم يحس بنفسه إلا و هو نائم حتى أقبل الصباح، استيقظ على حركة غريبة في الغرفة، و مجموعة من الممرضين يحيطون بسرير الشيخ.
أشار لأحد الممرضين يسأله عن السبب، حتى سمع أحدهم يقول، لقد مات في النوم، أتراه لم يتألم عندما مات نائما.
شعر ياسين بالألم يدب في أعماقه، رغم أن هذا الشيخ لم يعش معه إلا يوما واحدا و لكنه منحه نفسه و أعطاه فرصة للعودة لمحطة الحياة التي كان يريد الخروج منها.
في المساء عندما أقبل الممرض إليه سأله أن يحوله لسرير الشيخ، لبى الممرض رغبة ياسين، واصل توسله للممرض أن يجلسه أمام النافذة، ليرى ماذا كان يرى الشيخ.
-حسنا سأوقفك عندها.
وقف أمام النافذة و بقي مندهشا مما رآه:
-ما هذ... الجدار الذي يقف أمام النافذة؟، أين الحديقة و أين الأطفال الذين كان الشيخ يكلمني عنهم. ابتسم الممرض مرة أخرى و هو يقول: