لا أكاد أصدق ،لايمكنني التصديق ، فكيف يتسنى لرجل يلتقيني للمرة الأولى أن يكتشف مالم أكتشفه في نفسي طوال حياتي ؟
إنه لمساء مراوغ ، ماكر ، ذلك الذي خرجت فيه من عزلتي التي فرضتها على نفسي.
لم أرفض هذه المرة .. لم أتردد ، إنه حفل صغير تقيمه إحدى الزميلات بمناسبة عيد ميلاد ابنتها .
قبلت على الفور لسبب أجهله ، رغم أني اشترطت على نفسي عدم فتح ثغرة أمام الآخرين تمكنهم من الولوج إلى عالمي .. عالمي الذي صنعته لنفسي ، بمنطقي الخاص ، وفق برنامج أعددته وطبقته على مدار أعوام مضت .
قبل الذهاب إلى هناك ، منحت نفسي فرصة للتراجع .. للتفكير في عواقب الخطوة التي أقدم عليها بجرأة ، فالخروج عن المألوف ليس بالأمر اليسير ، ثم إنني لم أطرق باب أحد منذ أمد طويل، في أعماقي يقين مطلق بأن شيئا ما سوف يحدث عقب هذه الدعوة.
عند الباب وقفت .. زاغت عيناي ، فثمة أضواء تتلألأ ، موسيقى صاخبة ، أشرطة ملونة تزين الجدران ، أطفال بملابس الفرح يمرحون ، يا الله .. هذا العالم سأكون جزءا منه بعد قليل ، لم أعتد هذه الأجواء ، لكنني سأحاول الاندماج .
مررت بالضيوف .. سلمت عليهم جميعا .. جاء دوره .. إنه الرجل الذي قلب حياتي رأسا على عقب .
قالت زميلتي وهي تقدمه لي :
ـــ أستاذ مصطفى .. مترجم .
يا لهذا المترجم ، كيف استطاع أن يترجمني ؟ أن يغوص في أعماقي .. أن يفهم الأسرار التي انطوت عليها نفسي ؟ كيف ؟ كيف ؟ .
كل شئ على مايرام ، الفرح يعلو الوجوه .. الموسيقى انسابت بنعومة تدعو إلى التأمل الأطفال تعبوا من الرقص فاستكانوا ، خيم على المكان شىء من الهدوء .
أطباق الحلوى منحت الحاضرين طاقة غير اعتيادية فتوهجت الجلسة .. سادها الحماس .. دارت أحاديث جادة في السياسة .. الاقتصاد .. الحرب .. العنف .. الفقر .. الغلاء ، تقاطعت الأصوات بين مؤيد ومعارض .
أصغيت .. استنفرت قدراتي على المتابعة والاستيعاب ، وقفت على الحياد وكأن الأمر لايعنيني ، مر بعض الوقت لم تلتقط أذني خلاله أية كلمة .
كنت أستعيد بعض المشاهد التي رأيتها على شاشة التليفزيون ، يا لها من بشاعة ، قتل، عنف ، دمار ، ألا يدفعك هذا أن تغلق العالم دونك .
ثمة كلمات اخترقت سمعي .. استفزت مكنوناتي .. استفزتني ، وعلى غير ماتوقع أمسكت بدفة الحديث ، ثم رحت أتكلم دون تحفظ عن عالم غيبي .. غير مرئي لكأنني جزء منه .
تطرق أحد الضيوف إلى حادثة نشرت تفاصيلها إحدى المجلات ، مفادها أن قوى خفية أحرقت بيتا في إحدى القرى النائية .
سألته بتوتر ملحوظ :
ـــ أتعني أن الجن هو المسؤول عن تدمير ذلك المنزل .
لم أعطه فرصة للنفي أو التأكيد .
ـــ هل رأيت جنيا يقتل إنسانا أو يسرقه ، يشعل النيران أو يشن الحروب ؟ وحده الأنسان هو المسؤول عن تلك المصائب .. فهمت ؟
ـــ أنا لم أقل شيئا ، المجلة هي التي قالت ، ثم إنني لا أؤمن بوجود الجن .
ـــ لم لاتؤمن ؟ها ؟ أنت بذلك تنفي حقيقة مؤكدة ، الجن يعيش معنا جنبا إلى جنب ، والجميع يعلم ذلك .
ـــ تتكلمين عن الجن وكأنك تعرفين مالا نعرفه نحن !
ـــ إذا كنتم لاتعرفون فهذا شأنكم ، أما أنا فأعرف الكثير ، إنه كائن مسالم ، لايثير السخط أو الاشمئزاز كما يفعل بنو البشر .
ـــ وماذا أيضا ؟
ـــ أنا شخصيا أفضله على سائر الناس ، يكفي أنني لا أخشاه ولا أتوقع منه طعنة في الظهر .
بدا الأستاذ مصطفى متربصا ، ثم تدخل فجأة :
ـــ أنت تزعمين وجود الجن ، أعطيني دليلا على وجوده .
ـــ أنا لا أزعم ، بل أؤكد ، ذلك لأنني أعيش معهم ، أسمع أصواتهم .. أرصد تحركاتهم إنهم يكنون لي كل الحب ، وأنا أيضا ، إنهم ظرفاء ، يرفهون عني .. يداعبونني يملئون حياتي .
أحيانا أرى الأشياء تتطاير في فضاء البيت ثم تعود إلى أماكنها من جديد ، وتتغير مواقع الأثاث أحيانا أخرى دون تدخل مني ، فأنا أحب التغيير وهم يعلمون ذلك .
آه .. أقول لك شيئا قد يدهشك ، عند عودتي من عملي أسارع بغلق الباب وكأنني مطاردة ، لأنني أعلم أن الخطر يأتي من الخارج .. من الإنسان ، لا من المخلوقات التي أعيش معها .
ـــ أريد تفسيرا منطقيا لكل ماتدعين .
ـــ عدم وجود تفسيرات لحالة ما لايعني نفيها .
ـــ هذا كلام غير مستساغ ، كما أنه لايعتمد على منطق .
ـــ ماذا تريد أن تقول ؟
ـــ أنت تعانين من اضطراب نفسي ، أنصحك بمراجعة طبيب .
ـــ أرجوك .. أنا طبيعية جدا .
ـــ لاأظن ذلك !
الذاكرة قذفت محتوياتها ما إن ألقى حجره في مائها الراكد ، ما الذي حدث ؟ لماذا أقلب صفحات ذاكرتي الآن ؟ وقد تعاملت معها على أنها صندوقا للنفايات ، عن أي شئ أبحث في أوراقها الصفراء ؟ أية حلول لأي عقد أريد ؟
في أعماقي ألغاز أعجز عن الوصول إليها بمفردي ، ليس بإمكاني أن أستسلم للانقلاب الذي اجتاح عالمي ، أياد خفية تحاول تمزيق الهدوء الذي يلفني ، لابد أن أستعيد توازني ، لابد أن أستعين بطبيب .
استلقيت باسترخاء ، هو الذي طلب مني ذلك .
ـــ مما تعانين ؟
ـــ انا لا أعاني شيئا ، فأنا طبيعية جدا ، لكنهم يظنون عكس ذلك .
ـــ ماذا يظنون ؟
ـــ جئتك لأعرف .
ـــ كم عمرك ؟
ـــ أتممت الأربعين .
ـــ متزوجة ؟
ـــ نعم .
ـــ أين زوجك ؟ هل هو في الخارج ؟
ـــ إنه هنا في الغرفة .
ـــ لكنني لاأرى أحدا سوانا .
ـــ هذا أمر طبيعي ، لا أحد غيري يمكنه ذلك .
ـــ آه .. فهمت .
ـــ ماذا فهمت ؟
ـــ لاشىء ، سوف نستأنف الحديث في الجلسة القادمة .
تعددت الجلسات .. تلاشى عالمي شيئا فشيئا .. فقدت إحساسي به ، كنت أعيش وهما جميلا حتى جاء ذلك المصطفى ليشتت الوهم .. ليشتتني .. ليزج بي إلى عالم لا أجد نفسي فيه .. إلى عالم أمقته .
في الجلسة قبل الأخيرة ، كنت في السابعة من عمري، وثمة كلمة تتردد على سمعي وإخوتي ، حين يتعذر على أبي السيطرة على تصرفاتنا ، في الليل خاصة ، يلجأ إلى تخويفنا ، " إذا لم تنم فسوف يأتيك الحرامي ليقطع لسانك بأظافره ، ويسلبك كل أشيائك "
صار للخوف ملامح " فالحرامي " كائن غير مرئي ، لكنه عندما يظهر فسوف تكون له مخالب سوداء وملامح مرعبة ، هكذا تخيلته .
كنا نلعب وكان الفرح يغمرنا ، فجأة تحول الفرح إلى كابوس مفزع حين جاء أحد الأطفال ليخبرنا بأن الشرطة قبضت على " الحرامي " الذي حاول سرقة أحد البيوت.
انتابني الفزع ، فكيف سأرى ذلك الكائن القبيح هكذا وجها إلى وجه .. وهل سأسلم من شره ؟
ركض الأطفال وركضت معهم ، اتجهنا صوب سيارة الشرطة التي كانت تقله .. اختبأت وراء الأجساد .. مددت رأسي بحذر .. رأيته .
ياإلهي .. إنه بشر مثلنا .. إنه بشر .. بشر !
لم أنس ذلك المشهد أبدا ، لقد أفقدني الثقة بأصدقائي وبإخوتي أيضا .
ـــ حسنا ، في الثامنة من عمرك أو التاسعة ؟ ماذا حدث ؟ تذكري جيدا .
ـــ كنت أجمع ثمار التوت المتناثرة على أرض الحديقة ، كان الوقت ظهرا والشارع خال إلا من بعض المارة ، تناهت إلى سمعي نداءات استغاثة ، اعتليت الجدار على الفور ، ثمة فتاة شابة تركض فزعة ، يتبعها والدها حاملا بيده شيئا لم أتبينه في بادئ الأمر ، وما إن أصبح على بعد مناسب منها حتى أطلق النار عليها فسقطت قتيلة .
لم يفر وإنما وقف بشموخ رافعا رأسه وهو يردد "غسلت عاري بيدي " .
سال دم الفتاة على أسفلت الشارع ، سالت دموعي حزنا عليها ، أما والدها فقد ذهب إلى السجن دون أن يهمه ذلك .
قبل أن تسأل أيها الطبيب ، أود أن أقول لك بأن حياتي مليئة بحوادث أفظع مما ذكرته لك ، ولا أريد أن أتذكرها الآن ، الإنسان وحده هو المسؤول عن الخراب الذي حل في نفسي ، كان لابد أن أبتعد عن عالمه الدامي ، لأصنع لنفسي عالما مسالما لا قتل فيه ، لاحروب ، لامجازر ، لادمار .
ـــ أرجوك اهدئي ، أنت الآن في طريقك إلى الشفاء ، فلقد عرفنا الأسباب التي أدت إلى انعزالك عن الناس وخلقك عالما وهميا لاوجود له إلا في خيالاتك ، الإنسان ليس سيئا إلى هذا الحد ، والحياة رغم مساوؤها مازالت تدعو إلى التفاؤل ، ثم إن ..........
غادرت العيادة بنية اللاعودة .. خرجت إلى الشارع ، كان مزدحما ، آلات التنبيه تصم الآذان ، وثمة معارك صغيرة تدور هنا وهناك ، ألفاظ نابية .. صرخات هستيرية تؤذي السمع والروح معا .
وقفت أرقب المارة ، إنهم يحدثون ، أنفسهم لكنهم طبيعيون في نظر الناس ، يالهم من أشقياء .
لقد انضممت رغما عني إلى عالمهم الغريب بعد أن فقدت عالمي الجميل الساحر ، لكنني ومنذ ذلك اليوم صرت أدرك تماما أنني لم أعد طبيعية .
كنت هنا وعشت مع سير الأحداثحتى النهاية
كثير من الأمور التي تمر بنا وتغير من سلوكياتنا هي نتيجة تأثيرات خارجية
وتبقى تتراكم الواحدة فوق الاخرى
وبدون ان نشعر تتغير الطباع والسلوكيات
كان حوارا راقياً
وسرداً جميلا
لواقع يشعر معه الانسان بالمرارة من نواي البشر ونفسياتهم وسلوكياتهم
ولكن يبقى الخير موجود
والسماء لا بد ان تكون صافية يوما بدون غيوم
كنت هنا وعشت مع سير الأحداثحتى النهاية
كثير من الأمور التي تمر بنا وتغير من سلوكياتنا هي نتيجة تأثيرات خارجية
وتبقى تتراكم الواحدة فوق الاخرى
وبدون ان نشعر تتغير الطباع والسلوكيات
كان حوارا راقياً
وسرداً جميلا
لواقع يشعر معه الانسان بالمرارة من نواي البشر ونفسياتهم وسلوكياتهم
ولكن يبقى الخير موجود
والسماء لا بد ان تكون صافية يوما بدون غيوم
نورتي بأطلالتك منتديات نبع العواطف الأدبية
تحياتي
أستاذة عواطف
الإنسان وحده هو المسؤول عن الخراب الذي حل في النفوس.
السماء كانت وستبقى ملبدة بالغيوم ، وأنا مازلت أحلم بسماء ملبدة بالفرح
شكرا لإطلالتك
دمت لنا
سولاف..هناك لحظات قدرية في حياة الإنسان لايملك فيها زمام أمره ، هي لحظات غيبية ، يظل الكائن كتوماً حتى يقابله إنسان آخر فيفرغ له ما في جعبته كأنه يعرفه منذ زمن طويل ، لها علاقة بالتركيبة الكيميائية للإنسان والقبول للآخر في لحظة مفاجئة ، شكرا لأن سردك كان باذخاً وجميلاً
كل واحد منا له عالمان خارجي وداخلي ولكن قليل منا من يستطيع وصف عالمه الداخلي بسهولة وبلغة جميلة خالية من أخطاء لغوية وإملائية . قد لا أعرف من مقومات القصة وشروطها شيئا ولكني أحبها منذ أيام الطفولة وقد شدني إلى قصتك حبل لا أعرف كنهه فبقيت معها وأعيدها حتى شعرت أني ابتدأت أبحث في داخل نفسي ما أخفيه عني
رائعة وخصوصا اللغة التي أظنها طوع يديك بخلاف الكثير من كتاب القصة
كل واحد منا له عالمان خارجي وداخلي ولكن قليل منا من يستطيع وصف عالمه الداخلي بسهولة وبلغة جميلة خالية من أخطاء لغوية وإملائية . قد لا أعرف من مقومات القصة وشروطها شيئا ولكني أحبها منذ أيام الطفولة وقد شدني إلى قصتك حبل لا أعرف كنهه فبقيت معها وأعيدها حتى شعرت أني ابتدأت أبحث في داخل نفسي ما أخفيه عني
رائعة وخصوصا اللغة التي أظنها طوع يديك بخلاف الكثير من كتاب القصة
لك باقة ورد معطرة بأسمى آيات التقدير والاحترام
تحياتي ومودتي
أستاذ عبد الرسول معله
لك وحشة والله
شكرا لإطلالتك ولكلماتك التي تسعدني
(لي نص ينتظر إشراقتك)
ودي
الاخت سولاف ادهشني الحوار حيث انك كنت مميزة في جعله منسابا وغير ممل انت تستعملين ادواتك باتقان حيث تتصاعد الاحداث في القصة نحو قمة نجهلها واخيرا ياتي دور الصدمة صدمة النص اللذيذه تحياتي لك ولابداعك تقبلي فائق احترامي