هل رأيتِ موت ظلي -3 -
ثقب في الخاصرة
.. وقيل أنه قبل انبلاج الفجر على قرية معلقة على خاصرة الجبل, ظهرت في سماء القرية هالة من ضوء, جعلت ليل القرية نهارا, وأن الهالة سارت في الطرقات والأزقة, وتوقفت أمام بيت خرجت منه امرأة لها بهاء حوريات الحلم, فتحولت الهالة إلى قنديل حملته يمامة وطارت..
وقيل أن الطيور المهاجرة عادت من المنافي وبنت أعشاشها على هامات الشجر, وتناوبت الرقاد على البيض حتى فقس البيض عن طيور البراءة, وأن عصفورا غادر عشه ذات ليلة إلى حضن المرأة, ووشوشها:
- اتبعيني إلى قبو البخور تجديه
- أين القبو؟
- في مقهى الذاكرة..
وقبلها, فداهمتها رجفة شوق, ونزفت عرقا بطعم القرنفل, وسرى في دمها طعم بعيد لا زال يسكنها, فانتعلت عند الفجر قلبها إلى العرافة في بطن الجبل..
دست العرافة كفها بين نهدي المرأة سألت:
- ماذا ترين؟
- بعيدي يقترب
ووقفت على بياض العين دمعة يرقص داخلها أمير, فاختلط الأمر على العرافة أذا ما رأت دمعة المرأة أم وجه الأمير!!
***
عن النادل:
أن فارس مل الانتظار فغادر المقهى, ولم يشرب كوب القرفة بالزنجبيل, رجوته أن ينتظر فربت على كتفي قال:
- أخبرها أني يوما سأعود
***
.. أه من رشق السهام في خاصرتي.. آه من نزف قلبي, فالبيداء مقفرة والمسافات طويلة ودمي يسبقني, وأنا لا أملك من أمري غير روحي, جاءني بعضي في صوت يأتي من بعيد.. - إنها تجاهد الوقت حتى يحين الوقت.. - وكيف عرفت؟! – تركت بعض روائحها في المكان.. ضحك الصوت, خلته يسخر مني, والتبس عليَّ الأمر, هل أنا أرهف السمع لصوت نبضي, أم هو صوت رجل آخر يقرأني!! فاستغثتُ بنزف الخاصرة.. وهتفتُ: - هل هو أنتَ أنا.. – إنما أنا حارس القبو.. نادل مقهى الذاكرة وحملتها من خاصرتي إلى عينيَّ ورحنا نرقب المدى.. كان الوقت نهايات نهار, والشمس تجلس عند خط التقاء السماء بالماء تجلس على صدر البحر تمشط ضفائرها جديلة من برتقال.. ورأيت النورس قادما على متن الجديلة يعلو ويهبط لاهيا.. حتى إذا ما بلغ الشاطئ فرد جناحيه يتبختر.. قبلني بين عيني وغنى: - هي ما زالت تلضم من حبيبات الوقت قلادة.. – هل قابلتها يا طائر الفرح.. وأين؟ - حدثتني عنها أختي اليمامة التي ترقد على بيضها في القبو. وامتطى النورس ضفيرة الشمس يمم شمالا إلى منارة عسقلان.. فجأة انهمر الموت.. كانت زوارقهم تترصد كل صاحب حلم في المكان
*** نقر حبات المطر أم خطو ظبية حلت في المكان, "حدث نفسه نادل المقهى نفسه" قدم لها كوب القرفة بالزنجبيل. همس مرحبا: - أنظري في الفنجان تجديه.. ورأته يصعد على موج البخار.. لا تدري إن كان على فرح أو كان على وجوم.. واحتسته رشفة وجد.. وضع النادل على الطاولة شطيرة طُليت " بالقمير" مزروع برطب الرافدين, هدلت اليمامة بوجع: – آه يا لهفي عليه سدوا عليه المنافذ عند رابية تقع بين موتين على مشارف غزة, رفعوا في وجهه كفا ملطخة بالدم, كتبوا عليها "هنا ايرتس" ممنوع الدخول.. بكت اليمامة شهقت دمعة دم: - انه ينزف من ثقب غدر نال منه الخاصرة.. قالت الريح: – ولو يا يمامة الروح.. انه سيجتاز المسافة..
***
وأنا لا زلت على ميعادي عند منارة عسقلان.. زرعوا الموت في صدري, صرخوا: - أين البطاقة أيها البدوي الغريب؟! - رسمي هو أسمي.. فأنا - أغرب عن هنا.. لا تدنس أرض الرب "ايرتس" اليهود.. بقروني في الخاصرة. فتكاثف من حولهم الغبش, ولم يروا النورس يأخذ روحي يثبتها راية على رأس المنارة.. آه يا لهفي عليكِ.. لم يشغلني عنك سواكِ, لكنهم زرعوا دروبي بالعسس نشروا العيون, أني أتزود ببقايا نبض قلبي للوصول فانتظريني..
***
عجب النادل في أمر اليمامة.. لم تخلد إلى عشها كالعادة هذا المساء.. ظلت تحلق في سقف القبو وتهدل.. حتى أذا اقترب الميعاد, شكت على سطح الطاولة عودا من بخور, وأخذت ترقص.. ضحك النادل على وجد قديم وحدث نفسه:
" يا لكِ من يمامة ذكية, حركتِ فيّ شجن اعتقدتُ انه لطول الغفوة مات.." .طارت اليمامة وشوشته: - لا تموت الروح وإن ذهب الجسد.. هل نسيت!
وحضرت المرأة في ذات الميعاد..
***
بينما كنت اعبر بين ذاتي وذاتي.. جاء النورس مع ضفيرة الشمس.. قبلني وقال: - ماذا تفعل يا صديقي
- أعبر من جسدي إلى روحي.. ربما أقطع المسافة بين الفناء والخلود. – أخرج من لحمك وانفلت..
وانفلتُ من أسري.. ووجدتني أتوسد صدر أميرة.. أعبر الأجندات إليها وأري التواريخ شلال سراب.. وأرى شيئا كالجنون أو المجون.. وأرى الكرامة مثل قيح الصديد.. وارى الخلاعة والمياعة والأسياد هم العبيد.. وأراها تسري في دمي, تلهث مع نبضي.. تمسح دمعي ذاهلة بصمت.. صمت النورس على وجع, وأخذ يأكل بعض كبده ويردد: - ما أقسى أن يكون الوطن منفيا في الوطن..
***
عن النادل..
أن الأمير ما زال يدور حول السور العتيق, وأن العسس يقفون له بالمرصاد كلما حاذى البراق.. وأن كل من دخل المدينة رآه يقطع درب الآلام يقتفي خطوات ابن مريم عيسى المسيح, ويصلي الصبح حاضر خلف الإمام في الأقصى الشريف.. وعن اليمامة عن النورس..
أن امرأة غادرت بلاد الرافدين في زمن الالتباس, تحمل الغائب بين الجوانح وتجلس في ركن قصي من القبو, حتى أذا فرغ المقهى من الرواد وانتهي النادل من ترتيب الحكايات على الرفوف, يطبع على جبينها قبلة مخضبة بالدموع, ويردد ويعني:
- مهما طالت الغيبة بالغائب حتما يعود