كان ذلك فى الصباح حينما أرسلت الشمس أشعتها الذهبيه ولونت معالم ذلك الحى بلون الذهب. تعالت أصوات قاطنى الحى ، يلقون تحية الصباح. بنات الجدة حنونة أتين من بيوتهن، يصبحن عليها ويحتسين قهوة الصباح معها، ويثرثرن بالأخبار التى حجبها الليل بسواده والناس نياما. كما علت أصوات الصبية وهم يتدافعون صوب الشارع كعصافير فك أسرها .ضجة الشارع بالمشاة كل صوب هدفه .وخرج الرجال قبل شروق الشمس لأماكن عملهم، فهم عمال سكك حديد . الشارع يتسع ويضيق بألعابرين. لاحظ المارة أن هناك كومة أسمال وبطاطين متخذة شكل البقجة على حصيرة. قرب مبنى يسمى الزاوية يمارس فيه جميع أهل الحى الصلاة ،و طقوس العزاء والزواج ومناقشة أمور الحى.ولكنهم لم يعيروها إهتماما فمواعيد العمل قد أزفت ولا وقت لأشباع الفضول.
هذا الحى الذى شيدت منازله من الطين اللبن. بخارطة واحدة ،غرفتين ومطبخ وفناءو شجرة نيم ظليلة أمام الباب . أو داخل الفناء ، وزريبة للأغنام . ومنافع الحمام، وفوق سطحه برج الحمام .كان السكان متحابون متساوون لم تدخل المادة والترف الى حياتهم البسيطة. وكان الشارع فى ذلك الحى جزء من فناء المنزل يحظى كل صباح بالكنس والتقاط قاذورات الحيونات ورش المياه حتى لاتثير أقدام المارة الغبار حى متفرد. يصحوا سكانه مبكرا الكل يعرف ماذا يريد أن يفعل بشروقه الجديد . فى شروق هذا اليوم أتى وافد أكتشفه ابراهيم إمام الزاوية عندما ذهب الى حظيرة الأغنام ليطعمها ويراه كيف أمضت الليل، فالحيونات فى هذا الحى تحظى بالعنايه مثل اللأطفال. فهى مراقبة فى فى مأكلها ومشربها وصحتها ،لذلك يحظى المساعد البيطرى عمارة، بكل اللإحترام وينادونه بالدكتورشانه شأن الطبيب البشرى . دلف إبراهيم الأما م صوب الزاوية . فرأى كومة الأسمال المكومة. فتحركت فجفل ولكنه إنتبه الى إصطفاف الصبيه خلفه .بفضول ظهر جليا فى معالم وجوههم، التى كساها وجل وخوف ممزوج بدهشة. وسؤال حائر يكاد يخرج من شفاه الجميع دفعة واحدة كنشيد العلم فى طابور الصباح: من هو؟ الذى يفترش الأرض ويلتحف بطانية من الصوف القديم، سوداء وملابس متسخه فى البقجة الملقاة بإهمال أمامه. كشف الوافد وجهه عندما دنا منه إبراهيم. ووخزة بعصاة كانت معه لأخراج الأغنام من الحظيرة لتمرح فى الشوارع. فرك الوافد عينيه ليمعن النظر فى هذا الجمع الذى إلتف حوله ،أزال بطانيته وإعتدل فى جلسته ورفع رأسه قائلا: صباح الخير ياناس الحلة وضحك دون سبب فبدأ وجهه طيبا متعبا فسرعان ماتجاوب معه أهل الحى. هرع الصبية الى البيوت وجاءوا يحملون الشاى واللقيمات التى هى طقس ثابت كل صباح. ومازالوا ينظرون اليه فهو يكبرهم قليلا، ولكنه متسخ الجسد ومشعث وأغبر. سأله أحد الصبيه بماذا نناديك ضحك ثانيا وقال: نادونى بما تريدون نادونى .. .وبدأ عليه كانه يتذكر ولكنه لايريد الكشف عن هويته. فصاح أحدهم لينقذ الموقف فلنناديه عبد الختم . فصار له أسما ألفه سكان الحى وصار يبنى لنفسه حياة بينهم. لاتختلف عن نمط حياتهم المسطرة بالمحبه وإحترام الكل وحفظ المسا فات العمرية والمقامات . كان يتجول فى السوق الصغيّر‘ الذى يقضى فيه أهل الحى منافعهم .وأغلب ملاك المحلات من أهل الحى. فيعطونه نقودا قليلة نظير عتالة بضائع أو نظافة متجر. وكان صاحب المطعم الوحيد عم محفوظى يمنحه وجبة الأفطار مجانا نظير لاشئ. عندما يأتى المساء يضجع متهالكا على حصيرته قرب الزاويه وينوم آمنا كبقية أهل الحى وحيواناتهم لاشئ يهدد الأحياء فى هذا الحى الجميل بقاطنيه فالسلام موسيقى لحن خفى ينبعث من دواخلهم فينومون هانئين ينتظرون ما يأتى به الغد.
إتفق الرجال فى الزاوية. بعد أن عددوا مآثر الوافد الجديد، بأن يسمحوا له بدخول المنازل للمساعدة النساء فى الغسيل والنظافة والمراسيل ، نظير نقود تحفظ له كرامته. فلديه طاقه يتجول بها فى شوارع الحى ويهدرها مع الصبية ضحكا ولعبا.
عندما دعته ست عواطف لنظافة بيتها المميز بالمفروشات،و السجاجيد . وذهبت للمدرسة. عادت كاد أن يتوقف قلبها فقد غسل عبد الختم السجاد بالماء والصابون، فاختلطت الألوان وأنكمش السجاد. وهو فرح بأنه قدم للست عواطف خدمة جليلة. كتمت غضبها وأعطته نقوده .لامت نفسها لانها لم توجهه وشرحت له الأ يفعل ذلك مرة أخرى. وهكذا صار يدور فى المنازل. بت أبوحجل لديها بنت لاتخرج من المنزل. وتخاف من الشارع ،ولكنها عندما يأتى عبد الختم تجلس إلى جواره وهو يحرك الملابس داخل طست الغسيل ، وهى تجلب له الماء وتوجهه. سألته ذات يوم عن أهله أوقف حركة يديه ، ونظر إليها صامتا وواصل غسيله .كانت هى الوحيدة التى تكرر عليه السؤال كلما جاء. نمت بينهم إلفة غير مفهومة هى لاتخرج، وتريد أن تعرف عنه كل شى. وهو فتى الشوارع لم يسأله أحد ولايريد أحد أن يعرف من أين أتى؟ هذا الشارع المتفرد معياره الأخلاق. بدأت تنمو لديه مشاعر من نوع غريب لم يألفها من قبل، أحس بإهتمام حمامة هكذا ينادونها لجمالها وخفتها أطلقت عليها أمها هذا الإسم.جاء ذات يوم فى غير موعده وجلس من الصباح الباكر أمام منزلها، ينتظر أن تطلب منه أمها الغسيل ولكن لم يفتح الباب وقد ضج الشارع بالمارة من صبية وعمال وآخرين. جاءت فاطمة الجارة هذه المرأة معروفة فى الحى لاتفوتها شاردة أو واردة. فقد إستشعرت إهتمام عبد الختم الوافد بحمامة فقالت: لامها هامسه لاتتركيها تجلس معه وحدها فهو رجل كبقية الرجال يروم النساء إذا إنفرد بهن وصارت تحذرها وتحكى لها. فبهتت أم حمامة وتوجست خيفة. وحرّمت خدماته. ومنذ ذلك اليوم طارت حمامته وبدأ عليه شى من الضيق وكبر حبه الذى غذاه الخيال والبعد. وماكان يدرى إن بداخله كل هذا العشق. فنحل جسمه وتوارت ضحكاته وكان أهل الحى يهتمون به يسألونه دائما عن مايضايقه ويعطونه النقود ظنا أنه فى ضائقة لا يدرون أن العشق طرق قلبه.
مرضت حمامة وجعلت أمها فى حيرة من أمرها. كان عبد الختم ابن الشارع ،هو الفتى الوحيد الذى تحدثت اليه فهى خجولة ومريضة فى نفسها، تهاب الخروج من البيت، لذلك تركت مقاعد الدراسة مبكرا ولاتخرج أبدا . وأرادت أن تسبر غوره فإختفى. فكرت حمامة كثيرا. وخططت ودبرت وإنتظرت أمها خرجت لتعاود الرضية التى مات زوجها وتقضى اليوم معها. فما كان من حمامة إلا أن أرسلت فى طلب عبد الختم لغسل الملابس. لم يصدق فقد سمع دقات قلبه لاول مرة عندما جلس للغسيل وجلست قبالته فى صمت تنظر إليه حتى بادرها قائلا: أريد أن أحكى معك.ففرحت ودفعته للكلام فقال:أنا ولد شوارع لاأعرف عائلتى ولكنى أتذكر أمى وقال هامسا :كانت تبيع الخمور فى البيت ويأتوها الرجال من كل صوب وحدب. وكان الصادق زوج أمى عندما تلعب الخمر فى رأسه يأتينى فى فراشى .وأنا ابن العاشرة،فاقاومه فيضربنى، ويخبرو الدتى الأكاذيب عنى. فتنهال على بحذئها ذى الكعب المصنوع من الخشب على ركبتى وساقى. وكشف لها عن ساقه لترى الندوب. وكان زوج أمى كثير الشجار. فجاء أحدهم ذات ليلة ظلماء وغرس سكينا فى رقبته فصرخ وخر سريعا. وحدث هرج ومرج وتسللت خفية، ولم أرى أمى منذ ذلك اليوم ولم يسالنى أحد من أنا همت فى الشوارع. واتقنت قوانين الشارع وحفظتها. وجدت أن العنف ليس من خصالى، ربما أورثنى أبى المجهول جيناته. فأنا مسالم. ووجدت فى شارع حيّكم الجميل، دروس أخرى المحبة والمحبة ..لذلك القيت عصى التجوال. عندما أنهى كلماته الأخيرة طفرت دمعة سخينة على خد حمامة. مشاركة له هذا الضياع وظلت صامته وهمست له: لاترحل من شارعنا لقد ألفناك. شعر بقشعريرة تسرى فى جسدة لم يحدث أن شعر بالإنتماء كما اللحظة.
منذ الخامسه مساء أختفى سكان الحى داخل بيوتهم. يرومون الدفء. فقد جاء الشتاء هذه السنه مبكرا . زمهرير، ورياح، الصمت يخيم. إلا من أصوات بعض الحيونات والأطفال، وتنبعث رائحة الشاى والشواء لاسكات الجوع الذى خلفه هذا البرد القارص . الشارع خال تماما إلا من صفير الرياح وعصف أوراق الأشجار، وهناك قبالة الزاوية يحاول عبد الختم ان يتدثر ببطاطينه التى جلبها له إمام الزاوية ليقاومغوائل الشتاء. والرياح تعوى وسيلا رمليا يحط فوق جسده ويدفنه حيا. وهو يجمع شتات أفكاره، وقد ألمت به جائحة فصار يسعل سعالا مريعا. حتى سمعه كل سكان الحى . أصيب بعدوى أمراض الشتاء أتوا له بالدواء ولكن هذه الليلة قد إشتدت عليه الحمى،وصار يهزئ وينادى أمه، وتارة صبية الشارع الذين ألفهم .تداخلت الرؤى و إشتد هذيانه وأهل الحى نياما .
إنتقل النبأ بين جنبات الحى. والصبية يهرولون هنا وهناك. يتسابقون لنقل الخبر الى أمهاتهم وكذلك وصل النبأ الى عم محفوظى الذى نقله بسرعة لأصحاب المحلات فى السوق الصغيّر. كما وصل الحدث الى الحكيم البيطرى. وقبل كل هؤلاء كان قد وصل الخبر الى حمامة. ولم تستطيع الخروج لتلقى عليه نظرة الوداع، فقد وجد عبد الختم ميتا مكورا كما فى رحم أمه. عندما لم ينهض حتى بعثت الشمس أشعتها الشتويه الخاملة. فهرع الصبية لايقاظه فكان، النبأ الكارثه .سارسكان الحى خلف جثمانه، وجعلوا له جنازة مهيبة وحملوه إلى مثواه. والنسوة إجتمعن أمام الزاوية ينتحبن. وحمامة تبكى تحت ظل النيمة التى كان يستظل بظلها فى فناء منزلهم . قد فقد الشارع الجميل فردا جميلا.