ظلال الأرقام الرماديـــة
امرأة من بلـــور
تشع وهج الصباحات الدافئة منذ علق الله الشمس في فضاء الكون، ابتسامة صامتة تجرجر في أذيالها أشواق من يقع في مدارها، هالة خفيفة حول عينيها, ليست على نمش أو آثار كدر, تشي برغبات طفحت في ليل بهيج.. تشتعل على خصلات شعر فاحم، وبشرة بيضاء مغسولة بضوء فجر مؤمن يسبح لحظة الخلق، تطفح على صفحة الوجه حمرة مبادرة..
قبل نهاية الدوام الرسمي قدمها السيد المدير العام:
- السيدة بثينة محي الدين الزميلة الجديدة في المؤسسة .
طاف بها السيد حسون الزفر، رئيس قسم شؤون الأفراد على المدراء ورؤساء الأقسام، وغضّ الطرف عن رؤساء الشعب وصغار الموظفين، يفح في وجوه الموظفين ابتسامة بلهاء تنطوي على سؤال غير معلن عن سر هذه البثينة.
أبو زكي الحارس، يؤكد أنها لم تدخل من باب المؤسسة الرئيس، وحمدون الآذن، لا يدري كيف ظهرت له في الطابق العلوي، اما سهير السكرتيرة فقد ضربت رأسها بعد أن شهقت، عندما دخلت السيدة مكتب المدير العام بدون استئذان وأغلقت الباب خلفها .
صدر الأمر للآذن حمدون لتجهيز مكتب السيدة، ولما سأل عن الحجرة التي تضم المكتب أسقط في يد المدير العام، فهو يعرف أن عدد المدراء قد فاق عدد الحجرات، حتى أن السيد دعبول الأخرس الذي رقي إلى مرتبة مدير بدون ادارة ما زال بدون مكتب مستقل .
غادرت السيدة بثينة المؤسسة بعد دقائق، ودعانا السيد المدير العام لإجتماع طارىء لبحث امكانية توفير حجرة خاصة للسيدة, تشجع دعبول وسأل بغير براءة:
- واين سيقيم من يتنازل عن حجرته؟
وتشجع حسون الزفر ومارس خبثه:
- وما هي الدائرة التي ستترأسها السيدة؟
ومَضَت الفكرة في رأس السيد المدير العام، ورقصت بين عينيه وتبدت على صوره ارتجافة حاجبيه الكثين واتساع حدقتيه، وانفض الإجتماع..
ركبت العفاريت مقسم التليفون، البعض انتشروا في الشرفات وممرات الحديقة لاستعمال التليفونات النقالة، مكالمات قصيرة، وردود طويلة، مكالمات طويلة، وردود مبتسرة، رسائل بالفاكس وردود بالفاكس، استدعاء الانترنت، فناجين القهوة، وأكواب الشاي، أقراص الاسبرين والنوفالجين، وبخاخات الكالونيا، والعطور الخفيفة والثقيلة، حتى حبوب الضغط وحقن الأنسولين..
والمدير العام في مكتبه يحاور الورقة التي تركتها السيدة على مكتبه:
" تنقل السيدة بثينة حسان محي الدين الموظفة في مؤسسة ..... إلى مؤسسة ....... وعلى مرتبة مدير دائرة " .
هدأت الجلبة في الطابق السفلي، فاستدعى الموظفين إلى مكتبه فرادى، واستقبل الإفادات الشفهية والمكتوبة، واحتفظ برسائل الفاكسات، ومصورات الانترنت، ودون ملاحظاته في دفتره الأنيق ....
السكرتيرة طلبت له المؤسسة الأخرى، وكعادتها راحت تتنصت إلى أن سمعت عبرالهاتف صوت ارتطام، هرعت اليه.. كان ممدداً على الأرض، سماعة التليفون في يده، وخيط زبد جاف ينزلق من زاوية فمه.. صرخت حتى دوى في الضاحية زامور سيارة الإسعاف، واحتفظت السكرتيرة بالدفتر الأنيق بعيداً عن عيون الفضوليين..
وبوسائلها الخاصة علمت السكرتيرة أن السيد المدير العام قد غادر المستشفى سليماً معافى، بعد أن اختلف مع الأطباء، اذ أصر أنه كان غافياً وفي الغفوة حلم أنه يسقط في فراش وثير، أما الأطباء فيؤكدون أنه وصل إلى قسم الطوارىء مغمىً عليه، ونقل على الفور الى وحدة العناية المركزة، ولكنه زمجر وتهدد وتوعد واعتبر الأمر تشهيراً به، وتشكيكاً في قدراته الصحية والعقلية ومواقفه الوطنية، يؤيده في ذلك السيدة بثينة التي لا يعرف أحد كيف وصلت إلى المستشفى، ولكنها استطاعت بوسائلها وابتساماتها الخفيفة على زاوية فمها أن تهدىء من روع السيد المدير العام، وأن تنتزع بياناً من الناطق الإعلامي للمستشفى وزع على الصحف ووكالات الأنباء حول قيام السيد المدير العام بزيارة تفقدية لأقسام المستشفى والإطمئنان على حالات المرضى, وأن سيادته أثنى على سير العمل في جميع الأقسام، وإن أدارة المستشفى تثمن لسيادته هذه الزيارة الكريمة التي تحمل في معناها ومغزاها اهتمام كبار الموظفين بقضايا الجمهور .
* * *
كَتب المدير العام في الدفتر الأنيق:
" في الثلاثين من العمر، متماسكة، صامتة ساهمة على ابتسامة تقف على زاوية فمها المزموم ، شفتان غليظتان كبتلات زنبقة لحظة تفتحها، لحم بريء دافىء، يستفز من يتطلع اليها، فيسقط تحت مظلة رموشها في بحرين خضراوين بلون مروج مغسولة لتوها بندى ربيع مبكر"
قالوا: هي العائدة من المنافي البعيدة، وقالوا إنها تسللت من حضن المرج الى شاطىء غزة، ومنهم من أكد أنها طالما جابت شوارع غزة وخانيونس، ويعتقد موظف صغير أنه رآها في قرية عبسان جنوبي القطاع..
لم يتأكد اذا ما كانت متزوجة أو مطلقة، ولم يتوفر الدليل الى كونها أماً لولد أو بنت.
تقول رسائل الفاكس، ومصورات عن الانترنت، انها خبيرة في علم الحاسوب، وتتعامل مع الأدب وكتابة السيناريو، وإنها الفت كتاباً فكرياً هاماً قبل سنوات، لكن سيدةً لم يتصل بها أحد تبرعت بتزويدنا باسماء الأفلام التي لعبت السيدة بثينة دور البطولة فيها، كما أبدت رغبتها بتزويدنا بأفلام خاصة بعروض الأزياء حيث عرضت بثينة أزياء البحروالسهرة تحديداً .
السكرتيرة، تؤكد لخطيبها أن السيد المدير العام طلب ملف السيدة بثينة محي الدين من المؤسسة الأخرى، فأبلغه موظف الارشيف هناك أن الملف لا يحتوي الا على قرار تعيينها موظفة على الدرجة العاشرة، وذلك قبل ثلاثة أشهر، واسر للمدير وبشكل ودي أن دائرة الموظفين بالمؤسسة أرسلت للسيدة استجواباً حول تغيبها عن العمل لمدة اسبوع، ولما سأل المدير العام عن خبر نقلها تبين من رد موظف الأرشيف أن لا علم لديه بذلك، ولدى استدراجه حول معلومات عن عنوان سكنها وعلاقاتها الإجتماعية رد الموظف بحذر قاطع :
- ليس لدي ما أقول .
وأغلق التليفون .
* * *
في اليوم التالي وعلى غير العادة، بكر المدير العام خفيفاً نشيطاً حليقاً مهفهفاً، كل شيء فيه رمادي، حتى شيب فوديه كان رمادياً، بدلته رمادية وربطة عنقه رمادية مشجرة على قميص رمادي بارد, ولم يطل بنا الترقب، وتصدير النظرات، وتقليب الشفاه والحواجب حتى وزع الآذن حمدون على الجميع أمراً ادارياً بتعيين السيدة بثينة محي الدين مديراً للإدارة وشؤون الموظفين.
وقع الأمر كالصاعقة على رأس الزميل حسون الزفر، الذي تهيأ للترقية منذ عامين، وقبل أن نضع خططنا لتقييم وتقدير الموقف مع التغيرات الجديدة، كانت السيدة المديرة بيننا، بطلّتها الرمادية وشعرها الرمادي الفاتح، وطقمها الرمادي حتى الايشارب الخفيف حول رقبتها، والمشجر بألوان ربطة عنق السيد المدير العام..
تبسمت في وجوهنا لأقل من ثانية، وتوقفت عند رأس حسون الزفر ثانية اضافية، فزفرت سحنته غيظاً لم يستطع اخفاءه، فابتسمت له من زاوية فمها، وصعدت خفيفة الى الطابق العلوي.
وبعد دقائق، هبط علينا قرارٌ اداريٌ يطلب من الجميع التقدم بطلب اجازة لمدة أسبوع اعتباراً من يوم الغد، وذلك لإجراء ترميمات وأعمال بناء في مبنى المؤسسة، على أن تحتسب الإجازة من رصيد اجازات الموظف السنوية، وظهرت مشكلة أمام من استنفذوا إجازاتهم ولكن سرعان ما تم التغلب عليها، فمنهم من غطاها بتقارير طبية بوسائله الخاصة، ومنهم من دخل المستشفى فعلاً.
* * *
بحيوية فائضة وقصص غنية عدنا ، ما عدا الأستاذ حسون الذي تم التحفظ عليه في قسم الأورام الخبيثة في المستشفى.
اختفت المؤسسة لم يعد هناك حجرات ولا مكاتب أو حتى ملفات وأوراق ، فقط غرفة لمكتب المدير العام، وحجرة زجاجية للسكرتيرة، وحجرة مكتب المديرة وصالة هائلة الاتساع مثل قاعات البورصة، فيها مكاتب رمادية صغيرة أنيقة، وضع على كل مكتب بطاقة كتب عليها اسم الموظف ورقمه.. جلسنا كمن حط على رؤوسهم الطير حتى تفرقنا عند نهاية الدوام الرسمي، وفي اليوم التالي وجدنا أن البطاقات استبدلت بأخرى عليها الأرقام فقط، أغلقنا أفواهنا، وآذاننا وتركنا عيوننا تدور في المحاجر، فاكتشفنا ملامح أرقامنا وإذا بالأرقام تتحول إلى كيانات منها السمراء أو السوداء والشقراء ومنها الطويلة والقصيرة، والسمينة والرفيعة، وحادة الصوت وغليظته، كما أن منها الطيب والخبيث والساذج، وفوجئنا بأن مواصفات الرقم تتناسب مع صاحبه وتمثله خير تمثيل ومع مرور الأيام نسي الواحد منا اسمه وصفته الادارية ، وأخذنا نتعامل مع بعضنا بصفات وخصائص الأرقام، لغز واحد حيرنا هو أن الأرقام لا تخضع لتسلسل تصاعدي أو تنازلي ولا حتى لقوانين المتواليات العددية والهندسية، ولا يوجد قواسم مشتركة بين أرقام المدراء أو رؤساء الأقسام أو حتى عمال النظافة .
* * *
السيدة المديرة تمر بالصالة الساعة العاشرة صباحاً، تتفقدنا قبل أن تصعد الى مكتبها، وفي بعض الأيام تهمس لأحد الأرقام، فيتبعها، ويعود بعد دقائق، يجلس على مكتبه صامتاً لا تبدو عليه علامات قلق أو علامات سعادة، يقضي يومه يحدق في الأرقام من حوله حتى نهاية الدوام الرسمي، وفي يوم توقفت المديرة عندي ، فتبعتها.
جلست خلف مكتبها الزجاجي البلوري الشفاف، الملفات الملونة مرتبة بأناقة في الجوارير الزجاجية، في الجارور السفلي رتبت أدوات تجميل وزجاجات عطور غالية الثمن.. قربت وجهها من عيني، فانبهرت من اخضرار عينيها، مساحات شاسعة مترامية مراع وحقول وشجيرات كرز وبرقوق تتهيأ لاطلاق نوارها، أعشاب طرية مغسولة بندى هبط في عتمة ليل رهيف.. طيف مهرة عفية تتقافز في غلالة ضباب بعيد.. قالت:
- الأستاذ .؟
لساني مخدر مبطوح في فمي، حاولت تحريكه حتى يخرج صوتي لم أفلح، وبقي مخدراً يستعذب الصمت وينبهني حتى أتذكر اسمي.. صوت السيدة بثينة يعبرني:
- رقم الأستاذ...؟
يخضّر لساني ، تركبه رعونة غنجاء يتلو الرقم بدلال ظاهر:
- 93،67،98
أومأت بارتياح، صهلت المهرة في غلالة الضباب أقصى المساحة الخضراء، دقت الأرض بقائمتيها الخلفيتين ونفثت بخار منخريها وراحت تقضم الأعشاب بشهية، وتسلقت أنا الجيد الطويل، زحفت حتى دخلت الهالتين حول العينين الخضراوين، ونظرت إلى منحدر الصدر وأخدود النهدين، وتأرجحت مع الصفيحة الذهبية المدلاة من سلسلة ذهبية.. لغة غريبة محفورة على القلادة المتكئة على لحم دافئ واثق.. قالت:
- كيف تسير الأمور في الصالة؟
- على خير وجه
- ما هو لونك المفضل ؟
كذبتُ ، قلبي معلق بالأخضر المترامي ولكن لساني المغناج كبحني
- الرمادي
- جميل يا ...
اندفع لساني وتعجبت من حضور بديهتي:
- 93،67،98 يا سيدتي المدير ة
عدة أسابيع مرت، تبسمت المديرة خلالها لجميع الأرقام، وتحولت الصالة بالتدريج إلى الرمادي، القمصان، البنطلونات، الفساتين، والبلوزات والجوارب وربطات العنق والإيشاربات الثقيلة والخفيفة، حتى الأحذية واطارات النظارات، وقد يسر الأمر علينا افتتاح المعرض الرمادي بجوار المؤسسة، المشكلة الوحيدة التي واجهتنا، كانت في توفير باقات الأزهار الرمادية للمزهريات البديعة على مكاتبنا، والتي عجز عامل الحديقة عن توفيرها، اقترح أحد الأرقام أن نتخلص من المزهريات، لكن الرقم مسؤول المستودع حذر بأن المزهريات لم تستهلك بعد، والاستغناء عنها هدراً للمال العام، إلى أن حلّت السكرتيرة المشكلة، وأحضرت زهوراً رمادية اصطناعية.. فالتقط عامل الحديقة الفكرة العبقرية، وحرث أرض الحديقة وزرعها من جديد بالورود الإصطناعية الرمادية ومن جميع الأصناف، وداوم على ريها كعادته...
السيد المدير العام، وبحكم موقعه الوظيفي لم يتقيد بالزهورالاصطناعية، وصار يحضر معه كل صباح زنبقتين ليلكيتين يضع واحدة في مزهريته، ويبعث بالأخرى مع تحية الصباح الى السيدة مديرة الإدارة.
* * *
تخلت السيدة بثينة عن عادتها، فلم تعد تمر على الصالة، ولم تتوقف عند أي رقم، حتى كدنا ننسى ابتسامتها وبعض ملامحها، ولكنها فاجأتنا ذات صباح وهي ترتدي ثوباً ليلكياً شفافاً لا يخفي القلادة الذهبية المستكينة عند فوهة الأخدود على بلاطة صدرها.. وزعت ابتسامتها علينا، ثم أعطت الكلمة للسيد المدير العام، الذي عبر باسمه شخصياً وبالنيابة عنا جميعاً عن شديد أسفه، وأسفنا جميعاً لقرار نقل الأخت والزميلة بثينة ...
شمخت بصدرها وامتلأت اعتزازاً، واكتفت بأن اهدتنا ابتسامة، رقصتها على زاوية فمها لأقل من ثانية، ثم نثرت علينا أزاهير ليلكية، وغادرت المكان..
* * *
رنّت الهواتف على جميع المكاتب دفعة واحدة، وانطلق صفير آلات الفاكس فانشغلنا بالردود على المكالمات الطارئة، نجيب على الأسئلة بدقة ،وأمانة، ومسؤولية تتناسب مع سمعتنا الطيبة كموظفين خبراء وشرفاء، لا سيما وأن الأمر يتعلق بالزميلة السيدة بثينة محي الدين التي نقلت الى مؤسسة.. وبرتبة مدير عام..