كنت أكتب و نافذتي مفتوحة ... و قطرات المطر الهاطلة في تنسيق و تنظيم شديدين تُبَعْثر الدخان المتجمع فتغفو كل محاولة لإطلالة أنثوية من شرفة أحلامي المنكسرة ...
تفاصيل مشوَّهة تلك التي كانت تتراقص من الحين للآخر على واجهتي الزجاجية ... و كنت أحطّم كل قطعة زجاج ترفض الانصياع لأوامري .. و كانت النتيجة أني حطّمت ليلتها كل زجاج نوافذ غرفتي .. حتى الكؤوس مارست شعوذتها و وشايتها و هواية تصوير النساء و استباحت جنونها على فكري المتعب فتحطمت ..
لأول مرة قررت ان أستعبد القصيدة و لا أتركها تطوِّعني ...
منذ أن أتممت دراساتي الجامعية في الحقوق و أنا منزوٍ داخل الصفحات أداعب حرفا أجَّج نيران الاعتراف بداخلي و رغباتي في أن أملك أنثى بتفاصيلها الجريئة و البريئة و بملامح عشقية كنت قد رسمتها أنا قبل الآن و سطرتها ضمن قصائدي البيضاء،
و أعاتب حرفا مدّ أصابع النهاية لتفتَّك مني خاتمة أفلامي الجميلة .. و تسلبني رغباتي في امتلاك أحرف أخرى أكثر إثارة لكتابة قصيدة ...
لا أنكر .. أنِّي خضت علاقات مع نساء، بحثا منّي عن امرأتي المختفية في جسد أنثى أخرى لا أعرف تفاصيلها .. لكنِّي فشلت في رصد خطاها ... و تعثَّرت كثيرا في حبال الشكل المخادع بمجرد محاولتي التصّنت على همس أعماقها خِفْية و بذكائي كشاعر و روائي ..
كنت أعرف تماما لعبة التخفي بالكلمات و لعبة التوغل في نفوس النساء من تجاربي الكثيرة بين السطور و من محاولاتي الكثيرة لتشريح أنثى على صفحاتي حتى أنِّي توصلت في نهاية لصنع أنثى على طريقتي ... و على طريقة رغباتي و ميولي الفنية و الشكلية و حتى الشاعرية .... غير أنّي كثيرا ما اصطدمت بعيوب تشوِّه فنية اللَّوحات فأمزقها و أنثر رفات ألوانها على سطح بحر دموعي حتى تغْرَقَ بين ملوحة الأمواج و انسياب دموعي المتواصل كأنَّه شلال عذري .. فأكون بذلك قد أغرقت و قتلت امرأة على حدود قلبي الملغوم ... و أنهض لأعيش قصة حبي الملتهبة في دفاتري و بين أحرفي ...
حتى أني شعرت حينها أن الكتابة فقط من تتفهم غرابة مطالبي وكأنها أنثى صُنِعت على مقياس رجولتي و تسلُّط ريشتي و ألواني ..... أنثى تفضل الانتحار قبل أن تمتد لها الكلمات لتقتلها ..
كنت رجلا أستعمل الحروف حتى في واقعي البعيد عن الأوراق .... فقد رمزت لكل أنثى استطاعت أن تمتطي صهوة أشعاري و لو لبعض الوقت كمداعبة لقدر هو لي .. بمجرد حروف .. فتعرّفت على حرف الألف و الياء و العين و القاف و و و و و هناك من الحروف من يتكرّر و كأنّ دخان احتراقه قد خلّف نارا أخرى ..
من وحي الرماد تشبُّ عواصف نارية تؤرّخ لمواجع باهتة .. وحدها النار الأصيلة تتأجّج بحكمة و حنكة فلا يطفئها شتاء و لا تخبو لمجرد الاحتكاك بمطر، تصرخ باشتعالها المشبوه بكراهية الصمت .. إذا حدث و انطفأت فإنّ رمادها يستنجد برياح دخيلة تبعثره، و مع لهفة جمع شتاته تضيع السنين و يغترب العمر و تبقى المواجع خالدة تحفر بقسوةٍ و بفؤوس حادة بأعماق الرّوح .. لذلك الحروف عندي فوارق ..
في سنوات دراستي، حاصرت الحروف و هاجمتها بصواعق متتالية و تحرّرت من الصفحات رغم أنّي كنت أفرش من الحين للآخر ركنا من جبل نائي أقضي فيه بعضا من قيلولتي الشعرية و أفضي له بنوازع نفسي الفتية و كنت أتصبّب عرقا كلّما دوّت قصيدة شعرية بأعماقي، حتى أصاب بحمى لا أشفى منها حتى يطارح قلمي الصفحات .. و حتى أصلب طول شجني بقدٍ يضاهي نخيل صحراء الألم .. كنت حزينا بدرجات شاهقة ..
كان الحب بحياتي حينذاك يعصف بوتيرة هادئة، كأمواج صبية لتوّها تعلّمت الحبو، على بحر لم يتعلّم فنون العمق المخادع .. سرعان ما يُسرِّحني و يفارقني بمجرد أن أمزّقه و أفتّت أزهاره شعرا و أرصد له قيمة شعرية قد لا تتعدّى الهوامش و أحيانا تُصاب بصدأ شديد إن حدث و تجاوزت سطور المراهقة محاولة منها لغزو شباب مبكر ..
الواقع أنّ المرأة التي كنت أبحث عنها لم تأت .. و لم تلوِّح بمنديلها و لم تسلّط قامة مكانتها بأعماقي حتى أحتاج لاقتناء المزيد من الدفاتر .. و أقلام الحبر الفاخرة .. و ليلة أرصُدها لسدّ فجوات الألم بلمحة طفولة منها و جسد أنثى، و ظلّ أنثى .. و رعونة جفاء تُداخلها لحظات كبرياء متقطّعة من تلك التي يعزفها العفاف و الحياء .. و استنكار لكل ما هو شاذ و دخيل على مجتمع مسلم ..
في تلك اللّيلة المشؤومة تفطّنت لأشياء لم تخطر على بال نزعتي الشعرية .. كنت بحاجة ماسة لمن يواسيني .. لمن يُسرّح مجرى تنّفسي المسدود بقطعة قماش حقيرة .. لمن ينتزع شوكة وردة ذابلة أدمتني كما لم تفعل أية وردة في عنفوان شبابها قبل الآن .... كما كان يقول المثل الشعبي الجزائري ( العود اللّي تحقرو يعميك ) فيما معناه أن قطعة الخشب أو الوتد الذي تستصغره هو من يفقدك البصر، في وقت تهرب من الأشياء التي تراها كبيرة، تفاجأت بلغتي و بألفاظي، لم يسبق لي أن استعنت قبل الآن بمصطلحات سوقية ووضعتها على قدر المساواة مع حروف متكبّرة .. متعالية حين تنسكب يُفْرَش لها السجّاد الأحمر تماما كما الحكّام و المُلاك .. و تعزف لها مقطوعة كانت تُحَفّز فيها لغة الأنوثة ..
و كأنّ الواقع الذي صدمني ليلتها قد أمات عمرا بحاله .. و استنكر لرحلة بحرية ضمّت أجود الأنفاس المتحرّرة في لحظة شجن .. شغفي بملء نموذجي المصمّم قد حاصرته نكبات عصيان شامل ... و كأنّ قلبي ليلتها قد انبطح أرضا لتنكل به أيادٍ متسخة .
خارطتي ارتمت على حدود وطن عربي أصابتها حمى الثورات ... أوردتي تحترق، شراييني تقصف من كل جانب .. و سجادة دمي الحمراء تفقد أنوثتها ..
لأول مرة تمنيت لو تتاح لي فرصة لقاء خاص مع بوعزيزي تونس، ذلك الرجل الذي نقم يوما على ظروفه و استبدّ به السخط حتى قرر أن ينتقم من لواعج نفسه و من سؤدد الحياة التعيسة فأشعل برباطة جأش فانوسا عبر من خلاله حاجز الدنيا المزيّف ليصل إلى مرتعه الأخير ... وضع حدا لحياة تجلَّت له كاذبة ... أحرق نفسه على مرأى من العالم .. أي شجاعة تلك التي تحملك على متابعة تفاصيل موتك، أي منظر ذاك .. حتى في احتراقاتي المتكرّرة لم أشهد احتراقا كذاك الذي أبكى شعوبا بحالها .... و أنا في كامل قواي الشجنية و الهستيرية تذكرته فخفّف عنّي بعضا من وطأة القهر الذي اعتراني منذ لحظة تغيير ما في حياتي .... أنا عربي فهل هي عدوى التغيير لكل ما هو عربي ...
تمنّيت لو ألتقيه كي أسأله عن طعم الاحتراق الإرادي ؟؟ و درجة الانتماء إلى جسد تبرأ منه في لحظة غفلة ؟؟ و انتمى إلى عود كبريت بجبروته و سلطته الحارقة .. و عن مقدار الرجولة المتبقي بعد تفحّم الجسد .... ؟؟ هل تصلح لإعارة شخصية .. ؟؟ في وقت انقرضت فيه كل معالم الرجولة .. و عن فصيلة الدم الجديدة التي تنتمي إليها دماء شرايين محترقة .. و هل يمكن التبرّع بدماء شابها اسوداد جريء .. ؟؟
الفارق بيننا أنه أشعل باحتراقه ثورة بلد بكامله بل بلدان بكاملها .... و أنا مجرد قطعة قماش أضرمت النيران في دفاتري .. في ذاكرتي .. في ماض اعتقدته هو الأصوب ...حتى مبادئي تناثرت كأنّ قنبلة ما انتحرت على ضفافها .. و نتيجة ذلك كتمان ..
البوعزيزي التونسي لقّن العالم نشيد الاحتراق ليحيا الوطن .. فكان التصفيق عميقا لدرجة الموت اليومي على حدود العروبة .... بعود كبريت واحد تنصّلت الأقطار العربية من أفكارها الرجعية، تجرّدت من ثيابها الرثة المتهرّئة و لبست ثياب التغيير ... و كأنّه أحرق التاريخ باحتراقه و أتلف كل وثيقة قد تبقيه حيا بعد موته ... !! و أنا .. فتيلة ( أنثى ) فاقدة الصلاحية تلاعبت بتاريخي الحربي و ذخيرتي من أنواع المتفجرات .. أصبحت كمجرد فرقعات كتلك التي يلهو بها الأطفال ليلة المولد النبوي الشريف ..
سقط النظام في تونس بعد أيام فقط من حادثة الانتحار و انتصبت تونس واقفة ترمّم ما هدّمته سنوات ما قبل البوعزيزي ... و أيام ما بعده ..
أي نظام سيسقط بعد سلسلة الحرائق التي شبّت بداخلي .. ؟ أي تصميم سأضحي به من بين تصاميم النساء التي أمتلك ؟ ، أي فنجان قهوة سأسكب محتواه المر .. ؟ و قد تشابهت فناجيني كلّها تلك اللّيلة في علقم قهوتها .. أي كتاب سأحرقه .. ؟ نذرا على احتراق حروف أبجديتي الذهنية، أي عاصفة من عواصف الانحراف .. ؟ سأتكئ عليها قبل أن أحاول النهوض مقصَّفا من جديد لأرمّم انكساراتي .. بعد فضيحة الشّلل الوقتي .. و العربدة المجنونة بشوارع الجنون ..
تداعت جدران الكلمات .. و صدئت أعمدة الكهرباء التي كانت تقهر عتمتي حين يغيب القمر عني لليال .. تنّكر لي مصباح ورثته عن وطن لا يشبه في وفائه لأي مصباح علّقته المدينة حديثا .. تلك المصابيح التي تقصد الإنارة في أشدّ مواطن الظلمة النفسية الخافتة من وطأة الحقارة ..
تساءلت :
- هل بإمكاني أن أغيّر تاريخ تلك الليلة .. ؟ و ماذا سأحرق كعربون صداقة .. ؟ و الاحتراق لا يعترف بفوارق النفوس .. فقط يعترف بالأشياء القابلة للتلف بسرعة شديدة ..
تلك التي تمجّد طقوس الاشتعال الطوعي .. رغبةً و هفوةً و ضياعاً .. و انقيادا مستحيلا ..
- هل يجب أن أدمّر ذلك الرصيف المحموم الذي قادني إليها ... ؟؟؟
- هل أحطّم كؤوس ذلك الملهى المشؤوم .. ؟ و حُجّتي الزجاج و طيفها المرسوم بضربات رملية شفافة .. ؟؟
- أم تراني يجب أن احرق جثتها .. ؟ التي تملّكت مقبرة أشجاني و رفضت بأنانية مطلقة أي مشروع ردم لرفات الذكرى ..
في تلك اللّيلة تشّعبت أفكاري و تعكّر مزاج شاعريّتي لدرجة فكّرت معها أن أمهّد لفكرة انتحار صفة الشاعر بداخلي .. و أحرق قصائدي و دفاتري و بقايا ورود تركتها للشجن، تنفيس خاطر ...
كنت أطارد و أنا أمارس هواية اصطياد النساء أشباه مالكتي المرسومة .. قد أجدها في تدقّقات شعرها المهووس .. قد أجدها في ابتسامتها الماكرة .. قد أجدها في حدّة ذكائها المصبوغ ببراءة فطرية و نزعة تجبّر تجلد كل يد تحاول التطاول لتمتلكها ..
تفاصيل تلك اللّيلة غيّرت تاريخا كان يُؤويني بين صفحاته، في أحيان كثيرة كنت أمزّق تماسكي و أنثره فوق رمال شواطئ شباط الكئيبة فيهيج البحر و يرفع سطوة أمواجه حتى يعتلي أفق شجني ... طيور النورس تبارك تعاويذ غضبي .. و تحاورني .. في استنكار شديد الوطأة .. و نزعة تملّك .. كأنّها تطردني من مناطقها المأهولة بالصراخ الدائم .. و كنت في صمتي أردع لغة الصراخ بداخلها و أسكن هفوة الأمواج المتلاطمة .. الباعثة على التداوي بصدفات البحر المنسحبة منه بوقار أنثى ..
فصل الشتاء لطالما شرَّدني بين شوارعه المظلمة و شواطئه المهجورة ... يشبهني تماما في حزنه الكلاسيكي و في ميوله نحو الانزواء ..كان قاسيا كما كانت إطلالتها تلك اللّيلة .. كان فادحا في جنون غَيْرَتِه ..
تجاوزت نفق تلك اللّيلة بصعوبة قاتلة .... بيني و بين نفسي أشياء لم استطع الإدلاء بها .. لكنّي فصلت نبضي الموصول بكهرباء الوهم و مضيت بنبض آلي حتى تختفي الصعقات .... و تخفت شرارة نيزكها الحارقة ..
أ- حياة شهد الموقرة...تصاميم أنثى قرأتها على العكس تماماً..
صياغة الفكر للحياة مخالفة لحقيقتها وفحواها ومحتواها العبثي ، تماماً كتلك الصحراء البائسة الصامتة الغائبة في المجهول والسراب...
كان التعبير حزيناً وجاداً، ومحبطاً ويائساً، وأحياناً هذه المسميات الموجعة تؤدي إلى فلسفة مُحبطة موجعة للغاية، كما هي الحقائق دائماً...
مع فائق الشكر...
...........
قد تتضح معالم تصاميم أنثى فيما بعد ..
في معناها العبثي و معناها الجاد جدا .. حتى أنّه يتجاوز كلّ الحدود
و ينحني عن وجهته التي بدت لأول مرة ..
الحياة هي تلك التي وصفتها بحزنها و فرحها و إحباطها و بؤسها و وجعها .. و ألمها و فلسفتها و قيودها و غيبها ..
***
سرتني قراءتك الاولية على امل الحضور لمرات عديدة ..
كل الشكر أستاذي الكريم ..
تحياتي و تقديري ..
إيقاع الرواية ألزمني الاحتفاظ بايقاعي في القراءة
لم يتغير الشعور قيد أنملة
وكما أدمعت عيناي في المرة الأولى من شدة الشغف
فهاهي تدمع مرة أخرى لنفس السبب
الباهرة حياة شهد
أتوقع لهذه الرواية أن "تكسر الدنيا" كما يقال
تقديري ومحبتي
إيقاع الرواية ألزمني الاحتفاظ بايقاعي في القراءة
لم يتغير الشعور قيد أنملة
وكما أدمعت عيناي في المرة الأولى من شدة الشغف
فهاهي تدمع مرة أخرى لنفس السبب
الباهرة حياة شهد
أتوقع لهذه الرواية أن "تكسر الدنيا" كما يقال
تقديري ومحبتي
............
سلمت عيناك من الدموع ..
سيدتي الفاضلة .. النجاح أن أجد مثل هذا الحضور يحضن قلمي ..
لست ادري ما أقول و انت للمرة الألف تخرسينني بلطفك و حسك الجميل ..
كل الشكر و عميق الامتنان و المحبة الدائمة ..