قصيدة تغري بالتأمل والقراءة ، وقبل الولوج في مكنوناتها ، كان َ لا بد ّ أن نقف في محراب عنوانها ، فالأنا ( وحدي ) جاءت بنبرة التوكيد ، وربما تم ّ حذف الضمير ( أنا ) من باب الإشارة الجلية لمدلول اللفظ ( وحدي ) ، فكأن ّ العنوان ( وحدي أنا اراك ) ، وهنا التوكيد الذي رأيناه هو تعميق وتجذير للمعنى المنشود ، وفيها إشارة بمفهوم مخالف ، لا يراك سواي ، فجاءت المعنى في أسلوب الحصر المجازي ، وفي سياق الأنا كان الفعل المضارع ( أرى ) ملتصقا بالمفعول به بصورة الضمير المتصل ( الكاف ) لتختفي الأنا قسرا ً ( أرى أنا أنت ) ، ليتماهى الفعل مع اللفظ وحدي في بناء جميل فيه قوة في الترابط ومتانة في النسيج ...
كما سبق وأسلفنا في قراءة العنوان ، جاء الإستهلال لا يخلو من البراعة عند الشاعرة ، وجاء متناميا في بناء الفكرة وتأكيدا ً لما حمله العنون من جمالية ، فيه التوكيد الذي أشرنا له بصورة أكثر وضوحا
( هم لا يروك َ وإنما وحدي أراك ) ...ولكن ، كيف تراه ؟ هو طيف ٌ متألق كنجمات في حضن السماء ، وهنا نقف أمام مفردة ( يهيم ) ، هنا تشبيه جميل للطيف الذي يسافر في خاطر بطلة النص وهو بالرغم من كونه مجرد خيال ، إلا أن له بريق يتلألأ كالنجمات ، وهنا نلمح استعارة جميلة ( حضن السماء ) فتم ّ تشبيه السماء بالإنسان الذي له حضن وحذفت المشبه به وأبقت ْ شيئا ً من لوازمه على سبيل الإستعارة المكنية ، وسنلاحظ في النص توظيف الشاعرة للصور البيانية بصورة زاخرة دون أن يشكل ذلك إنزياحا في البناء الدرامي للقصيدة ، أو الشكل البنيوي لها ، وهذا يُحسب لبراعتها في تشكيل هذا النسيج الجميل .
هنا تستمر الشاعرة في تقديم الصور الجميلة لهذا الطيف ، فهو طَلق ٌ / طُهر ٌ / نبض ٌ ...وهذا الخيال الجميل يتسلل داخل عينها صباحا مع بزوغ الفجر بدلالة المفردة ( يسري ) ...
ويُرمّم الخلجات بالفجْر النّدي
ظلّاً لحرفٍ يستلِبّ هشاشتي
ويمزّق الصمْت الذي يكْسُو رفيف جوانحي
فيُجاذِب العزفُ الرخيمُ صبابتي
وعندما يسري هذا الخيال ويتسلل لأعماقها ، يكون له وقع ٌ في إعادة بناء ما تهدّم َ من خلجات ...وهنا يأتي قولها : بالفجر النّدي ، امتدادا لمفردة ( يسري ) ، وربما أرادت الشاعرة بالفجر بداية تفتح المشاعر ، فكان تأثير هذا الخيال مبكرا في وجدانها ، وكان له الأثر في جذبها ....
لوْ غبْت عنّي
منْ يُراقص في انْكسارِ الضّوء
دمْعاً
يحْبس الأنْفاسَ في صدْرِ القمرْ
منْ ذا يُقاسم مهْجتي أنْشودةً
همْساً
يُناغيها المطرْ ؟
ويلمْلمُ الظّلّ المسافر في الشّجرْ ؟
[/COLOR]
تساؤل يحرك جحافل الخوف داخل نفسها المرهفة ، تساؤل يحمل القلق في كوامن نفسها ...( لو غبت َ عني ) ، وهنا تضع إجابات في حالة تحقق الغياب وما سيفعله الغياب من ترك الضوء المكسور بلا رفيق يشاطره الرقص ، وهنا أقف في حالة تأمل مذهل لهذه الصورة ، فنرى أن الضوء الذي أرادته الشاعرة هو بطلة النص ، وفي الغياب ستصاب بالإنكسار ، الإنكسار الناتج عن الوحدة ، وهنا أيضا تقدم إسما ً آخر لها ، القمر ...فهي الضوء وهي القمر ، وما يؤكد ما توصلنا له مفردة ( مهجتي ) ، فأنا يا عاشقي إن غبت َ عني سأصبح وحيدة لا أجد من يشاطرني الرقص ، والرقص هو مشهد يكون العاشقان أقرب ما يكونان من بعضهما حين يتركان أرواحهما تحلق في فضاء جميل ...
هنا نجد الشاعر تنتقل في رسم الصورة بطريقة منسابة رقيقة دون أن يكون هذا الإنتقال تاركا ً أية فجوة ...فتبدأ هذه الفقرة ( وأراك َ حلما ً ) ، وهنا يرشح ُ سؤال : لماذا اختارت الشاعرة مفردة ( حلما ً ) ، بالكاد أنها لم تلجأ لها من باب رصف الكلمات ، أو بحثا عن وزن ٍ أو قافية ..بل لأن الحلم هو امتداد طبيعي للطيف الذي تراه ...فالطيف قد نراه في الأحلام سواء أحلام المنام أو أحلام اليقظة ...والفرق بينهما أن أحلام المنام تأتينا غفلة دون سابق تحضير بينما أحلام اليقظة تزورنا ونحن في صحوتنا ونقوم باستحضارها ...وهنا اللافت أن الشاعرة عمدت لتوظيف الفعل المضارع ( وأراك / يشتهي / تنير / تضم ُ / يرتجي / يزم ّ / ) وهذه الفقرة الشعرية غنية بالصور البيانية ، ولو توقفنا أمامها وقدمنا قراءة مستفيضة ، نحتاج لسطور وصفحات كثيرة تقودنا لإسهاب ٍ نخشى معه أن نجلب الملل لمتلقي ...لذلك نكتفي بالإشارة لجمالية هذه الصور البيانية التي لم تأت ِ ثقيلة في بناء الفكرة العامة للقصيدة ...
وحدي أراكْ
خلْفَ القصيدة نائماً
تغفو على هُدْب المرايا في سكونْ
تنْثال منْكَ براءةً
تسْقي خريف طفولتي[/COLOR]
وحدي أراك ...هنا التكرار يزيد القصيدة جمالا ، ويُشكل ُ تعميقا أكثر للمعنى ، ويتكرر توظيف الفعل المضارع ، الذي يشكل العمود الفقري في القصيدة ، والمحور الذي تدور حوله بطريقة متناغمة جميلة ...وهنا تظهر مفردة ( براءة ) والبراءة تقودنا للولوج لعمق الشاعرة ، فالمحبوب هنا قد يكون إبنا ً / وقد يكون عاشقا ً / ودون التعمق أكثر في المقصود ، فنحن نقرأ جمالية النص من وجهة نظر خاصة دون أن نستحضر نفس الشاعرة لتحدد لنا المقصود ، فالنص عند نشره يصبح ملكا ً للقاريء ، ونحن من أنصار قراءة النص دون هوية .
هنا أجدني أقف إلى هذا الحد في هذه القراءة على أن نقدم الجزء التالي لاحقا بحول الله ، حتى نبتعد عن الإطناب ونُجنّب المتلقي الملل ....
الشاعرة المبدعة / منية الحسين : شاعرة تملك أدواتها ، وتقدم ثقافتها الرفيعة ، وتجد المتتبع لحرفها ونصوصها يحب الغوص في قراءة الجمال المتدفق من مدادها ، لها أسلوب مميز يبتعد لدرجة كبيرة عن النمطية ، كأني بها أرادت أن تنأى بنفسها عن المتداول وأرادت أن تبني لها مكانا بين النجوم ....
الأستاذة منية : حاولت الإقتراب من هذا الفيض الجميل ، فإن حالفني التوفيق في تقديم قراءة تليق بجمال قصيدتك فهذا توفيق من الله تبارك في علاه ، وإن أصابني الخطأ والإخفاق فهذا مني ومن الشيطان ...تقبلي إحترامي .
يا الله لو أنهم يرونك كما أراكِ يا حبيبة
وحدي أراكِ
ثغر يقبل أوجاعي
وسادة تربت على كتف أحلامي
يد حانية تمسح على وجه أحزاني
زهرة برية تنعش الكون بشذاها وتلون ببياضها ما بهت من فتات أيامي
/
منية
أيتها الغافية على هدب المرايا
تنثالين هنا
وكما همست لكِ سابقا بنعومة وانسيابية كما الحرير
وبسحر أنثى مخملية الاحساس
تلامسين الروح بحرفك الدافئ وهمسك الخلاب
وأحبكِ يا ناعمة الحرف
محبتي وتقديري
الشاعر الكبير /الوليد دويكات
الحرف بلا عين تترصده وقلم يهدهده
لامصير له غير التكدس في الأدراج الشاحبة ليكون وليمة شهية للعنكبوت !!
شكراً لأنك استقبلت حرفي بسخاءك المعتاد وأنقذته من ميتة سوداء
شكراً لأنك أعطيتني من وقتك وجهدك الكثير ولأن هذا الجهد كان شديد الدقة
والحساسية والمهارة في تشريح المفردة وصقل المعنى
ماذا أبقيت لغيرك أيها الناقد ، الشاعر ، الأديب - الإنسان ؟؟