تسللت سيارته بين الأحراش ليتيه شاردا وهو يحاول أن يطرد عنه بعض الوساوس وقد ألح ّبالعتمة وجه الطريق المتعرج .. حاول أن يقرأ بعض الآيات القرآنية ليبدد توجسا بعثرته شرفات المغيب على طول المسار ..وكم استبشر خيرا وهو يرى شيخا جليلا على بعد أمتار يُلوح له بكلتا يديه وقد بللت وجهه المضيء بعض زخات المطر .. أوقف سيارته بسرعة - وهويبتسم في قرارة نفسه- وقد وجد من يؤنس وحدته بهذا الخواء.. تفضل يا سيدي ..ماذا تفعل هنا وحيدا..؟
تقدم الشيخ رافلا بثيابه البيضاء وفتح باب السيارة مضمخا وجه الشاب بأعطر التحايا وأرق السلام متجاهلا سؤاله..
فابتسم الشاب بدوره وهو يبعثر من التهليل أجمله ..ومن الأدب أكمله ..معتقا عناقيد حديثه بكؤوس من تبرٍ ينمُّ عن عراقة منبته سائلا عن وجهة الشيخ الذي تسربل بغمائم صمتٍ لم يعرف الشاب كيف يبددها
ليشرد بعينين حائرتين نحو الأفق مطاردا بعض نور قد حاصرته أسراب الدجى وهو يخفض من سرعة سيارته احتراما لهيبة الشيخ الوقور..
وما هي إلا رفة جفن حتى لمح رجلا آخر يُلوح له منهكا من بعيد فاستأنس قلبه برفقة ٍ قد تبعد عنه وحشة الليل ..وتبدد صمت تلك الأمكنة التي راحت تمد أذرع المسافات أمامه..
أوقف سيارته بهدوء واستقبل الرجل ببسمة حبور ما فارقت وجهه البشوش مذ أدرك.. تقدم الرجل مباشرة للمكان الأمامي ومد يده ليفتح باب السيارة فصرخ الشاب في وجهه :..
دونك ياسيدي ألا ترى الشيخ أمامك ..؟
تفضل للمقعد الخلفي رجاءً ..
وقف الرجل مشدوها وهو يتساءل أي شيخ يا هذا ..؟
أجابه الشاب محرجا:.. ما بك يا أخي الليل يطاردنا ولا وقت لدي ثم كيف لك أن تتجاهل وجود هذا الشيخ الجليل الذي يجلس بجانبي ..
هيا أسرع من فضلك ودعنا نمضي فالمكان لا يؤتمن جانبه..
تجهم وجه الرجل ليعود بخطواته إلى الوراء مستغفرا وهو يحاول أن يخفي حيرته .. فمضى الشاب مسرعا وهو يطمئن نفسه بفتح باب حوار جديد مع الشيخ عله يغسل ما علق بذهنه من تصرف ذلك الغريب :
أيت يا سيدي كيف توقفت له بكل كرم لكنه يأبى إلا أن يجلس بمكانك وكأنه لا يراك..؟!
هز الشيخ رأسه بهدوء:. وكيف له أن يرى ما لا يمكن أن تراه إلا عيناك ..؟
أوقف الشاب سيارته مندهشا وهويبتلع غصة علقت بحلقه ليضيف بلسان يثقله التلعثم :..
ماذا تعني بالله عليك أيها الشيخ الجليل ، ومن تكون حتى لا يراك غيري..؟
وضع الشيخ يده على لحيته وهو يقول:.. إنني ملك الموت أتيت حتى أقبض روحك وعندما آنسني عبقُ طيبتك وحسنُ معاملتك للآخرين قررت أن أعطيك فرصة
حتى تصلي ركعتين لله لتعود روحُك إلى بارئها طاهرة مطهرة ..
جحظت عينا الشاب ونزل مهرولا ليعفر الثرى جبهته وهو يصلي ركعة ..فأخرى ..
وما كاد يسلم حتى سمع صوت سيارته وقد انطلقت كالسهم عائدة للوراء ليسرع الخطى حثيثا وما لبث أن انزلقت قدماه ببركة آسنة تطفو فوق وجهها لحية الشيخ