أي مقاس يصلح ليكفّن شجني .. ؟ أهو المقاس بين طاولتي و حدود عبورها ... إذن يلزمني انحناءة أخرى تحت شمس ذلك المكان ... كإعادة تمثيل لجريمة التنكيل بشواهدي و آهاتي التي تصدَّعت حتى يكون الزفير أكثر رعونة .. فيشطر بذلك صدر الأحلام الباهتة لتنتهي بعده أسطورية ليلة لعينة ..
الندبة التي تركتها بذاكرتي تلك اللّيلة شوَّهت عددا من الذكريات، كانت محاذية و تطفَّلت بطريقة أرستقراطية منعت معها كل لحظة شك أو مراوغة خاطر .. على كم هائل من أخبار المساءات .. و جلسات تناول الشاي المحلَّى بأطياف نساء و كعك العبور الآسر الذي يُخلّف معه وشم احتراق .. يَختفي بعدها بزلّة من جبل جليدي ..
***** مصر تتألّم و الموت يقدِّس طقوسه ... و يصنع لفافاته العصرية .. و ينفثها في الشوارع المزدحمة بالأفكار التحرّرية و الأجساد التي أنهكها السهر و المبيت في العراء محاولة لإيصال أصوات بقيت مكتومة طيلة نصف قرن .. حتى الأطفال في مشهد تاريخي تنازعوا الشارع مع الرجال ..
كدليل أنّ السلطة للشعب . لا مكان لدكتاتورية لا تملك شرعية تصفية الحسابات، لا مكان لفرد يأمر و لا ينتبه لزلّات لسانه، يردع و لا يحاصر هفواته .. وحدها فئات الشعب المختلفة صاحبة القرار السياسي و لها فقط حق التمثيل الدبلوماسي أمام الرّأي العام الدولي و الحكومات المناهضة للأفكار الدكتاتورية الهدامة .. وحده الشارع يملك صلاحية تشييد قصر رئاسي على مقاييس ميوله و أهوائه بحيث يعرف أبوابه الخفيّة التي يمكنه الولوج منها عند كل تمرّد و خروج عن دستورية حكم الأغلبية ..
مطر الدماء لا يزال يهطل بغزارة و لا توجد أيّة بوادر لربيع قريب .. قد يُسكن غضب الشتاء، العاصفة التي استدعت كل غطرستها و جنونها لتصبهم هناك ..
تهافت جمهوري كبير و مطالب سياسية و عدسات كاميرا تشحن الحدث و و و و ..
الوضع يتأزّم ..
الواضح أن أعواد الكبريت التي خلّفتها علبة البوعزيزي قد هُرِّبت بأيادٍ مسؤولة عبر حدود العروبة لتصل في زي تنكّري ( في صورة أنثى ) و كانت النساء صديقات حميمات للحدود .. منذ زمن التجسّس الأول .. حتى أنّ التاريخ يثبت أنّ الحروب العالمية و الأزمات سببها أنثى .. حتى جرائم الإنسانية نُفِّذت بتواطؤ نسائي .. ذلك أن المرأة هي الهدف الأول و الأخير لكل توجّه سياسي رجالي .. و لكل حزب يعمل في الخفاء و لكل رغبة في الارتقاء ..
حتى الجزائر بدأت تختنق من حجم الدخان المتصاعد .. فتيل الفتنة يواصل اشتعاله بوتيرة بطيئة لكنه سرعان ما أُخمد بتلبية مطالب اجتماعية محضة ...كان الشارع الجزائري لا يزال يعايش آثار النكبات القديمة و العشرية السوداء و سيول الدماء التي جرفت معها الأخضر و اليابس من الرّضع و الشيوخ ..
مفارقات ليل أسود لا يزال متربصا بكهوف الذاكرة ... و مواقد الحدث .
لا زالت رائحة الموت تُعبِّق الأمكنة .. مسك توارثته أجيال الاستقلال و الحقبة السوداء ... يوزّع في عنصرية شديدة .. فيضانات باب الواد التي جرّدت الشطآن من رمالها و غطّتها بأفرشة خريفية فاخرة ( جثت و رفات ) و كأنّه تغيير رداء ... لأشهر طويلة و سكان باب الواد يدوسون الجثث .. المئات من القتلى و المفقودين لحدود الساعة ... احتفلت الجزائر على إثر ذلك بمهرجان الموت الوطني و قدّمت قرابين عزاء لسماء ذرفت حدا أسطوريا من الدموع حزنا على مجتمع غاص في وحل مشبوه، تلّته انتكاسة قدر انهار ليزعزع الأرض بانهياره ..
حتى البحر أعلن سخطه فجأة و انفجر ضاحكا في وجه مدينة صنعت قدرها المهووس بالخداع، ثم في لحظة تعر من هيبته تراجع للخلف و كأنّه احتضار، إثر شهقة مباغتة و في ثوان استرجع أنفاسه و ضخَّها بشحنة مضاعفة انتقاما من أرض شهقت فجأة ثم نتيجة لزفيرها المدّمر و في لحظة استفزاز من الطبيعة الغاضبة، ولد من تحت أنقاض الشجن زلزال 2003 الذي جاء ليفضح غش المباني .. عمارات بكاملها سقطت ... و كسور في الذاكرة و تذكير من الله بيوم الحساب .. و شحنات التوبة التي غزت الجزائر لما بعد الهيجان، حتى و إن خفتت بعد ذلك بزمن ..
العاصمة الجزائرية بدت و كأنّها تغيّر حلّتها من الحين للآخر .. برداء موت جديد، شتوي و صيفي و قد تمتزج الفصول فيتيه الشارع بين اللّباس الصوفي و خرقات الصيف البالية .. الممزّقة .. العارية .. غير أنّها تتشابه في الانتماء السحري ليقين اسمه الموت ..
الشعب في الجزائر لم يطالب بإسقاط النظام ( غير التفاتات باهتة من أحزاب معارضة ) لم يعرها الشارع انتباها .. الشعب استفاد من حالة الغليان العربي و البخار الذي تحوَّل إلى غيمات متنقّلة تضخّ مطرها شعارات مندّدة و رقصات متناسقة .. ساندها في شقّها الاجتماعي .. وجدها فرصة سانحة ليضع قائمة مشتهياته على طاولة الأحلام وشيكة التحقيق و كأنّ المصباح السّحري جاهز لاستقبال الطلبات الآن و كفى ... فرص عمل ... زيادة رواتب ... سكنات ..
هناك من تأثر بأسطورية انتحار البوعزيزي فحاول تقليده لإيصال بحَّته لأصول الشتاء في غياب المسكّنات ... و لأنّ الحرق أصبح موضة و وسيلة سريعة للشهرة و الأضواء .... كانت تجربة مقتبسة بمظاهرها فقط ..
قد لا يعلم البوعزيزي أنّه دخل التاريخ بمجرّد تحوّله لتمثال متفحم، لا يصلح لوضعه رمزا لوطن فوق منصّة تاريخ جريء لا يبرئ ذمة داخليه عنوة بقدر ما يسجِّل انتكاسة مبتورة الهوامش ثم يُوَّقع خلفها و يبصم بإصبعه العاشر حتى تُصدِّقه الأجيال القادمة التي لا تعترف بالكتب و لا الأوراق .. مسكين ..
أشدّ ما آلمني ما لحق به من مجد دون أن يستفيد ... دون أن يشهد مراسم إعادة دفنه كبطل أسطوري و شهيد وطن بزغردات نساء و باقات ورود من تلك التي تُغرس للأمراء، دون أن يقصّ شريط حي سيسمى باسمه و يوقّع على وثيقة تولّيه حكم مجد ملفّق .. يا لسخرية القدر ..
*****
تلك المرأة التي أشعلت لفافات أحرفي لأشهر و نفثت دخانها بسماء شجني فلبدّتها ... ستدخل التاريخ، ستدوّن سراب وجودها بين صفحات ديوان جديد سيوزّع قريبا على مكتبات شوارع الجنون ... سيحمل تصاميمها الغربية ... و تصاميمي التي أصبحت كلاسيكية بعد ليلتها تلك .. و كأنّها سارت بها عبر جسر من زمن روماني غابر .. فألبستها ثياب التاريخ المطرّزة ..
غرفتي مثخنة بشحنات زفيري ... و بخار تنهيداتي المتصاعد و الغيم المكوّم فوق زجاج نافذتي و صفحات تنتظر هطول الشعر عليها ...
ميدان التحرير المصري يشهد عرسا تهافت عليه الملايين من المدعوين ممن يحملون بطاقات تعريف عربية و هوّية مصرية مهزوزة .. شعارات مرفوعة و أخرى تحرِّرها الألسن الملتهبة و تمليها الأرواح المعذّبة التي رحلت قبل أن تخفّ وطأة الزِّحام و تفتح الطريق نحو ميدان التحرير ....
مصر خرجت أخيرا من بؤرة الضياع بعد جمعة رحيل أخرى تضاف إلى رفيقاتها السابقات .. نجحت ثورة 25 يناير و انتصر الشتاء أخيرا على حمم صيف مجهولة الفوهة البركانية التي لفظتها و كأنّ فصلا غريبا تلاعب بعقارب الفصول ..
سقط النظام أيضا رغم حصاده المبّكر و الغنائم الكثيرة ... بعض الحقول احترقت بفعل القصف العشوائي لأشّعة شمس حارقة و صيفٍ جاء حرا أكثر من سابقيه .. تمرُّدا على كل ما هو كلاسيكي في اللّعبة السياسية الموسمية ..
سقط النّظام إذن .. و معه سقطت أنظمتي و مبادئي على جدار ملهى ليلي ... و دون شعارات .. وحدها انحناءات الضمير أمام قداسة المشاعر من كانت تشحنني بمكابرات خافتة، واهية في مجملها و كأنّها تداري عجزا و تذمرا متواريا خلف أنسجة الخيال ..
حتى أحرفي ملَّت الانتظار .. حتى دفاتري شابتها حالات ضجر خانقة جعلتها تتثاءب في محاولة لاستدراجٍ فاشل ..
مصر تعيش عهدها الذّهبي الجديد، دخلت في ترميمات تحالفت عليها قوات شعبية محاولة لبناء مصر جديدة .. و كأنّه استكشاف لمعلم تاريخي جديد .. يحتاج لرتوش و زخرفات ليصبح جاهزا ليوضع بإطار زجاجي لامع في متحف عربي، يحتاج كل إطلالة مساء لتلميع خاص حتى لا يفقد بريقه ..
تلك الفصول من الذاكرة العربية الموّقعة فجرا بأقلام غامضة لا يُكاد يُرى منها غير الرماد المنثور فوق الخطوط المرسومة قبلا .. حتى يظهر التوقيع في أيّة لحظة يُطلب فبها التوثيق و الرسمية المقتناة لحالات الحرج المباغتة .. تماما كعقد زواج عرفي .. بتاريخ معيّن و توقيع ينتسب لما قبل مرحلة التفقّد الضميرية .. كإثبات على شرعية فرضت نفسها بقوة .. و اختلست من الواقع فرضية صحيحة لتلفّق التهم و تحيد بعد ذلك عن جادة صوابها و تتفرّغ للهوس الكاذب على العقول المرهفة، السطحية ..
و أنا في كامل إصغائي لقلمي الحائر .... تذّكرت قضية أم درمان السودانية و حكاية المشادة العربية البائسة بين شعبين لهما نفس الماضي الثوري المجيد و الحاضر الكروي الأحمق ...و كأنّ نقاط الالتقاء بين الجيلين قد داستها أصابع أقدام حقيرة ... احترفت اللّعب بعقول المجانين المشوّهة ..
القضية التي تصبَّبت عرقا لأشهر طويلة على صفحات القلوب الميتة ... جرفت معها تنهيدات طفل فلسطيني لا زال جالسا فوق أنقاض بيته المدّمر ينتظر .. مرور علم عربي يقهر بداخله شجن فراق أحبته .. و يضمّه في استنساخ تام لصورة والديه من وحي الدم العربي .. و همسة أمومة خافتة تستنكر عدوان الألم عليه ..
شتّتت قافلة فلسطينية كانت تُجهّز للعودة إلى الوطن، عبر ممر عربي سحري .. تشنق على حوافه هفوات الخيانة .. معبر بانعطافات شعرية، بمتاهات حرفية تشحن العيون للبكاء .. لأنّ القلم الجاف لا يصلح لأنّ يطالب بحقّه في حبر فاخر ..
تلك القضية أضاعت رداءنا الشتوي المقاوم لقطرات المطر المجمّدة .. مزّقت بهفوتها الصارخة مضلّة الصقيع التي كانت ستقهر فوهة بركان تربّصت بمداخل الربيع ... أشاحت عنا وجه الخريف الذي كان سيحمل فوق أوراقه المتساقطة رسائل حنين مشفرّة تدعو العروبة لتستفيق بصفعات عاصفة عربية محضة لا مكان فيها لذرة رمل غربية .. !!
قضية فجّرت تساؤلات حول المصير السياسي .. عفوا الكروي و حتمية دخول كأس العالم العار ...
العروبة لا زالت تعيش فصول مراهقتها ...
فهل كانت الصفعة التالية حقا ربيعا عربيا داخله الخريف في مواقع مجهولة .. ؟