أقسم أنه رآها وأنه على يقين من أنها هي. .
تحدث بدقة عن الوضع الذي وجدها عليه ، قال إنه تحاشى الظهور أمامها ، لأنه لم يشأ إحراجها ، فالوضع مهين .. مهين للغاية .
أصغت إليه بتوتر .. بدت على وجهها سيماء الخجل .. تململت .. قالت بصوت كسير:
ـــ أمي .. أمتأكد أنت ؟
أشفق عليها .. احتضن وجهها بباطن كفيه .. طلب منها الهدوء لتتمكن من معالجة الموقف بحكمة دون أن تجرح والدتها أو تضعها في حرج .
ـــ لا أصدق .. أمي ! لماذا ؟ ما الذي ينقصها ؟ لقد تخطت الخمسين بأعوام ، هل جنت هذه المرأة ؟ كيف تمكنت من فعل ذلك ألا يهمها أمرنا ؟ ماذا لو اكتشف سرها أحد سوانا ؟ يالها من فضيحة .
ـــ اهدئي حبيبتي ، الانفعال لايحل المشاكل ، دعينا نفكر بروية .
ـــ نفكر بماذا ؟ نحن لم نخطء بحقها حتى تضعنا في هذا المأزق اللعين .
ـــ أرجوك حبيبتي .. انظري إلى الموقف من زاوية أخرى .
ـــ كيف ؟
ـــ أريدك أن تناقشي الأسباب لا النتائج .
ـــ فكر معي إذن في السبب الذي دعاها لارتكاب خطأ كهذا .
ـــ ربما نكون قد أهملناها أو أهملنا احتياجاتها !!
ـــ أتظن ذلك ؟
انسحب الحاضر لوهلة ، وحل الماضي بألقه المعتاد ، أمها تتألق كنجمة ، طواحين الفرح تنثر السعادة في أرجاء البيت المترع بالحب ، مظاهر الفرح لاتغادر المنزل ، فلا تكاد أمها أن تنهي احتفالا حتى تفكر في إقامة آخر ، لقد دأبت على استقطاب الأصدقاء من خلال حفلاتها المستمرة ، لأنها تجد في ذلك متعة لاتضاهيها متعة سواها .
أمها ملهمة أبيها ، لايكاد مكان في أنحاء البيت الكبير يخلو أحد جدرانه من لوحة تجسد جمالها المبهر أبدعتها ريشة زوجها العاشق ، لقد أحبها لدرجة جعلته ينفق أموالا طائلة على حفلات السمر التي تستهويها وعلى مقتنياتها الباهضة وإسرافها الذي لايقف عند حد ، ولم يبخل عليها بوقته الثمين لشدة ولعه بها .
لكن الحياة كما هو دأبها على الدوام ، تسحب البساط من تحت الأقدام دون مقدمات ، فلقد مات زوجها إثر إصابته بمرض خبيث ، بعدما أنفق نصف ثروته أملا في العلاج ، ثم توافد الأبناء .. أبناؤه من زوجته الأولى ، فتبخرت الأموال ، ولم يتبق لها سوى البيت الذي تسكن فيه .
انحسر الفرح .. ذبلت السعادة .. تلاشت الأمنيات ، وحل الخواء في النفوس ، إثر الحصار الذي جثم على البلاد ، مما اضطرها لبيع مجوهراتها مرة تلو مرة ، حتى نفدت ممتلكاتها ، فاقترحت عليها ابنتها بيع البيت الكبير وشراء آخر أقل منه ثمنا ، وهكذا يصبح بإمكانهما أن يقيما بالمبلغ الفائض مشروعا صغيرا يعود عليهما بدخل يفي احتياجاتهما المعاشية.
وقبل أن تنتقل إلى البيت الجديد اكتشفت الفخ الذي وقعت فيه ، ولم يمكنها عقد البيع الابتدائي من استرداد حقها ، لأنه أبرم مع امرأة لاتملك شبرا في ذلك العقار ، فهي مستأجرة ليس إلا ، تمكنت بإسلوب خداعي ماكر من إقناعها بدفع المبلغ كله قبل التسجيل لأنها تمر بظروف صعبة للغاية ، وما إن تسلمت المبلغ حتى غادرت البلاد على الفور .
القانون لا يحمي المغفلين ، عبارة ترددت كثيرا في ظل الوضع المتردي الذي أصبح يعاني منه الجميع ، وهكذا ضاع الأمل بضياع المال الذي تسرب من بين يديها بإكذوبة.
فاضطرت لاستئجار بيت بما تبقى لديها من مال ، وعندما تزوجت ابنتها انتقلت معها إلى بيت الزوج ، فهي لا تملك مايكفي احتياجاتها ، ولم يتبق لديها من سنوات العز والرخاء إلا الذكريات التي صارت مبعث ألم وحسرة .
مر الليل ثقيلا على الابنة التي أذهلتها المفاجأة ، يبدو أنه تواطأ مع الأرق ، فلقد طالت ساعاته وبدا لها النهار أشبه بأمنية بعيدة المنال .
أرهقها السهاد فأغمضت عينيها بعد طلوع الفجر ...
أمها تزهو بثيابها الحريرية .. تجلس على أكداس من النقود ، وبين الفينة والأخرى تكبش حفنة من الدنانير لتطوح بها في فضاء المكان ونظراتها تتابع هبوطها بسعادة.
ـــ أنت أجمل امرأة على هذه الأرض ، هكذا كان يقول لي والدك وسأبقى كذلك ، فأنا أمقت الشعر الأبيض وخطوط الزمن التي تحيل المرء إلى كائن آخر غير مستساغ من قبل الذين هم أصغر منه سنا، لأنهم يظنون أنه لم يعد له دور في هذه الحياة ، يحددون إقامته .. يسحبون منه صلاحياته .. يقررون نيابة عنه .. يعاملونه كما الأطفال ويفرضون عليه وضعا لايتواءم مع إرادته وطبيعة تفكيره ، ولو كان بأيديهم لأطلقوا النار عليه لأنه شاخ وهرم ، وهذا لايمكن أن يحدث معي ، فأنا امرأة من طراز خاص ، أحب المال وأعشق الحياة ، لن أسمح لأحد أن يعاملني ككم مهمل في طريقه إلى الزوال ، أنا لست كذلك ، مادمت على قيد الحياة ، وبمالي سأستعيد ألقي وحضوري.
أيقظها زوجها بحنو ، أفاقت فزعة :
ـــ رأيت أمي في المنام ، قالت لي كلاما أظنني سمعته منها في وقت مضى ، الآن صرت على يقين من أنني لم أحسن التعامل معها ، لأني انشغلت بك وبشؤوني الخاصة ..تجاهلت ميولها ورغباتها وكأن الحياة بالنسبة لمن هم في مثل سنها هي طعام وشراب وحسب ، أمي ليست من هذا النوع ، لقد أمضت حياتها كنجمة يدور في فلكها الجميع ، لكن لابأس ، سأحاول أن أنسيها مرارة الأيام الماضية .
ولجت غرفة أمها ، كانت تتهيأ للخروج ، بدت لها أكثر نضارة وقد اختفت خصلات شعرها الشيباء ، احتضنتها وعيناها تمسح سطوح الأثاث الذي يشغل حيز الغرفة .
لمحت عملات ورقية ملقاة فوق ملاءة السرير ، وضعت على غير ما ترتيب ، أطالت النظر إليها ، قالت محدثة نفسها :
لم يخطر لي يوما أن أجدك على هذا الحال ، أعلم أني أخطأت كثيرا حين تركتك دون نقود ، وأعرف أنك تصابين بالتعاسة والاكتئاب حين تعانين من الإفلاس ، لكن كيف استطعت يا أمي أن تحصلي على المال بهذه الوسيلة غير ال................
وقبل أن تنهمر من عينيها الدموع غادرت الغرفة دون أن تتحدث إلى والدتها ، لم تلتفت أمها إليها لأنها كانت هي الأخرى مستغرقة في تفكير عميق .
أسرعت إلى زوجها ، كان يوشك على مغادرة البيت .
ـــ انتظر .. فسوف آتي معك .
ـــ إلى أين ؟
ـــ أمي تتأهب للخروج .. أريد أن أراها كما رأيتها أنت.
ـــ وما الداعي لذلك ؟ لماذا تعرضين نفسك لموقف مؤلم كهذا ؟
ـــ أريد أن أتاكد بنفسي .
ـــ ألا تثقين بي ؟
ـــ بل أثق ، لكنني أريد أن أشاهدها بعيني .
ـــ لا أنصحك بذلك .
ـــ أعرف أنك تشفق علي .. لاتخش شيئا سوف أتمالك نفسي .
خرجت أمها فيما كانا يتتبعانها دون أن تلحظ ذلك ، استقلت حافلة النقل العام ، وعند منطقة بعينها ، هبطت من الحافلة قاصدة مكان ما، ثم سلكت زقاقا ضيقا في محاولة منها لاختصار الطريق .
تحرر الزوجان من السيارة وراحا يغذيان السير بغية اللحاق بها ، اتجهت صوب شارع مكتظ ..
كان الزوج يحاول جاهداً تهدئة زوجته المضطربة ، وقبل الوصول إلى قمة الشارع استوقفها راجيا إياها عدم التقدم خطوة أخرى إلى الأمام ، فيما وقفت أمها على الناصية مادة يدها طالبة الإحسان .