قراءة في نص (على خد الياسمين) للكاتبة الفاضلة سفانة بنت ابن الشاطئ
ماذا على خدّ الياسمين غير الندى الذي ترسمه إشراقة الفجر الطريّ وألوان الشمس الهابطة خيوطا من ضياء حريرية آهلة بنقاء الصباح الربيعي لتبارك العبق المتأجّج في ذلك الخدّ المنتظر قُبَلَ الضوء..المتعطّش لِلَثْمِ النور المنحدر من شمس الصباحات غبّ ليل طويل..
((عَلَى خَدِّ اليَاسَمِيْن ,, أُتَابِع بِأَنَاة جَدَلِيَة الصُّمُود ورِقَّة الإحْسَاس
تَبَدَى فَارِهًا حِينَمَا عكس بِبَهَاء ارتِسَامَات مَعَالِمِي
وخُطُوط قَلْبِي المُلَون بِريْشَتِه البَيْضَاء
لتتَجَلَّى صَفَاءُ دَقَّاتِه المُتَنَاغِمَة مَع عَزْفِ وُرَيْقَاتِه عَلَى أنْغَام
النَّسَمَات ,, المُرْتَعِبَة مِن ريَاحِ هَوجَاء مُفَاجِئَة,,))
فلنستمع إلى دقات قلب الياسمين وفيه نقاؤه الذي يعكس الوجه الحقيقي لطيبته وهي تنبض أنغاما تشبه ارتباكات الضعف والخوف من المصير الذي ينتظره في عالم مزدحم بالماديات .. يتسلّى بكل ما هو جميل وضعيف ..
((رَغْمَ التَّقَلبَات فِي عَالَم لاَهِثٍ خَلْفَ المَادِيَات والبَاحِثِ فِي أزِقَّةِ
الوَهْم وسَاحَات الزَّيْف ,, تتشَبَث بِخُيُوطٍ رَفيعة
تكاد تَقْطَعُهَا أيَادِ سَودَاء غَارِقَة بِدِمَاء الأنَا ,, ))
فالمحيط الماديّ لا يؤمن بشرائع الطيبة إلا قدر انتفاعها من الموجود لإثبات الوجود أو لدفع عجلة المصالح إلى سكة الربح والطريق إلى تأطير الذات
بكل ما يملؤها زهوا أجوفا ..
((مَآقِ عَمْيَاء لا تَرَى مِن ثَلْجِ ينَاير إلاَّ بَرْدهِ القَارِص ,, تَغْفل
عَمْدًا جَمالَ هَذا الرِّدَاء الأبْيَض الذِي يَمْنَحُ المَكَان
الدِّفْء والبَهَاء ,,))
فالعيون لا ترى أبعد من مدى رؤاها وهي عمياء عن الجمال الآخر للثلج غير البرد وغير هذا الرداء ويقينا أن الثلج حين يهبط له رسالة لا يفهمها من لا يرى من الشئ إلا سطحه .. فتراه يتأفف من برد الثلج ويتدثر منه بكلّ ما أوتي من دثار ..
(( أجْنِحَة خَضْرَاء تُرَفْرِفُ
بِكِبْرِيَاء تَقتفِي آثَارا شَتتَهَا القَيْظ ,,وجَلاَّد يَحْبُو بِسَوطِ البَيَان ,,
احْتَرَقَتْ كُلَّ مَرَاكِبه مِن قِدَم الزَّمَان ,,
مَيَاسِم اليَاسَمِيْن الرَّاقِيَة لَمْ تَعُدْ تَرَاه إلاَّ جُثَّةٍ سُجَّت
فِي قَعْر النِّسْيَان ..))
فترى الجميع بل الأغلب يتيه خلف الوهم الذي يرتسم في خياله رغم أنه يتشدّق بالعلم والكمال وفهم الأمور على حقيقتها .. والحقيقة غير ذلك متجاهلا أو متناسيا أن من لا يعترف بالياسمين ولا يؤمن برسالته السامية هو أيضا في نظر الياسمين ميت طواه النسيان فهنا تكمن جدلية الصمود المشار إليها
ولكنها لا ولن تلغي ذاتها ولن تدفن عبقها في إهمال الآخر الفاقد لحاسة الشم ..
((عِنْدَ تُخُوم اللَّيْل ,, أمْتَشِقُ حُدُودَ اليَاسَمِين ,,
ومِن حُلَيْمَات الحَرْف أنْقشُ بُحُورَ الشعر لتولدَ أجِنَّة تُحْيِي
كَلِمَات اخْتَبَأت فِي وعَاء الغُرُوب,, تُشعلُ قنَادِيل
صَدِئَة بعطر ينير مرافِئ وِدّ نَقِية على مساحات تتسع شفافيتها
رويدا رويدا ...))
ورغم كل ذلك أنّ ثمة من يعمل في المستحيل واحتمال حدوث ما لا يحدث وكأنه يحدث فيضع كل شيء في محله كشاعرتنا التي ارتدت الياسمين نقاء وطهرا وعفة ورفضت أن تكون غير الياسمين ورفضت أن تمتشق بوجه الرياح العاتية سوى حدود الياسمين وأشعلت القناديل التي صدئت من الإهمال بوقود من عطرها وأنوثتها فالورد يرفض أن يكون غير الورد في كل الظروف حتى وإن كانت النتيجة هو التغاضي المخضرم بل المزمن في محيط من الجماد المعتاد لأنها تؤمن بالقدر .. حسبها أنها تؤدي رسالتها وأنها تحاول الهطول حتى على الصخر الجلمد ..
((عِطْر فَرَنْسِي يَاسَمِيْنِي يَتَسَلَلُ بِرُقَي لِفَضَاء لا يَعِي
قِيْمَة العَطَاء السَّخِي بِلا َثَمَن ,, ولا إبْدَاع
مُعَادَلة التَّنَقُل بَيْنَ مُرَبَعَاتِ رُقْعَةِ المَشَاعِر إلى الخَانَةِ الأخْرَى ,,
دُون تَمَلّق ,, أو شَك يَحْصِد مَا تبَّقى مِن حب ,,
يلوذ بصمت موسوم بعند قاتل ومحفزات داخلية ,, يسدل
بأنامل التحدي على مسرح العطاء إشارة النهاية .))
فها هي تتغلغل كالعطر في خياشيم ظالميها دون تملق أو رياء ودون اللهاث خلف مصلحة ذاتية علّ العطر يستطيع إيقاد فتيل الأمل المتبقي رغم أن الستار أسدل بيد غشيمة عن التجاوب لهذا الدفق من المشاعر بأنصل من الصدود..
أبارك وأحيي هذا النص الإنساني الرافل بالعطاء والوهج الروحي متصدّيا بكل جبروت المبدأ لرياحات المادة القادمة من كل اتجاه
لقد نجحت الشاعرة في حد علمي هنا في سرد خاطرتها بأسلوب شعري جميل اكتفت بالموحي بدلا من الابتذال والمباشرة .. وجاءت صورها مركزة ومكثفة وحافظت على توازن النص بتحكم جميل رغم أن الفكرة ( وأقصد فكرة هذا النص ) تجعل من الكاتب في حالة انفعال على طول الخط فليس سهلا أن تكتب عن العطاء المتواصل لمعنى العطاء أو الوفاء لقاء التجاهل والتغاضي بل لقاء الإنكار والجحود .. كتبت بروح الإباء والشمم بعيدا عن لهجة التخاذل والانكسار فجاء النص شامخا بأدائه المتميز ولغة متقنة وأن الرمز الذي اتخذته الشاعرة لتمثل المرأة المعطاء كان متقنا ودقيقا فالياسمين يمثل النقاء والجمال والعطاء من غير حدود ..