كنتُ قد عاهدت نفسي أن أصنع لقدميّ خطوة ولو ثقيلة ...أمضي بها إليه
دون أدنى إلتفاتة لألمٍ أجهل موضعه ، أهو في خاصرتي أم في الأذن الوسطى لخيبتي...
ــ أه عفوا هل تأخرتُ؟
ــ تفضلي بالجلوس
ــ لكنني أكره المقاعد المتحركة ...
وقبل أن يبادر هو... سحبتُ من زاوية غرفته الباردة كرسيا خشبيا ..ابتسم وهزّ برأسه أن أجلس
ــ قولي ما تشائين
ــ ظننتُ أنك قد درستَ كل الاحتمالات لتسألني الإجابات...لِم لا تسألني أولا
ما الذي أتى بيّ إلى هنا ؟
ــ أعلم أنك تبحثين عن أذن صاغية ...لصوت حدثٍ ما يزلزل هدوء لحظاتكِ و كلّما فكرتِ في إلغائه كان أكثر طغيانا
ــ حتى الأحداث لا تأتي بمفردها... دائما ترافقها أحزان الآخرين...نعم نعم أحزانهم تربك هدوء بديهتي
لكنني لا أعاني الشعور بالذنب..ولا أبحث إلّا عن حفرة صغيرة تبتلعني..عن موت صغير...لايثير شفقة هؤلاء
ــ من هؤلاء؟
ــ لكنك الطبيب وليس أنا ،
قالوا أنك بارع في تشخيص حتى ما لم أفكر به بعد وقالوا أنك قد تزيل بمسحة سحرية
كل الغبار المتراكم على الستائر بيني وبينهم...
يا لبؤسي حتى غرفته صغيرة تستحي من خطواتي المتأرجحة بين الذهاب والإياب
أي هراء هذا الذي جاء بي إلى هنا...وهذه " البونساي " على شرفته لا أدري لماذا تفوح منها رائحة الزنجبيل
لوهلة شعرت أنها تتعملق بدفئها ... جلستُ من جديد
وألف فكرة عصيّة تراود ذهني المضطرب جُبنا ...تنتابني رغبة شديدة أن أطلق العنان لغضبي لحزني لدموعي ..
لكن ملامح وجهي الثاني مازالت تختبيء في حقيبتي وتعبث بمساحيق عتيقة أكل منها الدهر ولم يشبع
ــ بمَ تفكرين ...دعينا نفكر معا ...هناك جهات معنية ستقدم لكِ كل مابوسعها ..لمَ كل هذا الخوف؟
أتريدين حقا إجهاض جنين في وقتٍ محرجٍ ...يكاد يكون جريمة بحق الإنسانية؟
ــ نعم...لأنه سيبرر عودتي للمرة الثالثة بعد الألف ...هذا الجنين يادكتور مشوّه مشوّه
تماما كتلك الليلة التي مازالت تمارس في رأسي
أنسنتها المغموسة بزفرات الحظير والدخان والعفونة ولعنة الحبوب المنوّمة
لا أريد هذا المشوّه أن يربطني بحبال الصمت من جديد ...نفذت كل طاقات أمومتي يادكتور أرجوك
أرأيتَ...أصابعهم اقتلعت عينيّ...أنا لا أبكي ...
ـــ على مايبدو إصراركِ لا يتزحزح ...قبل أن أوقّع ،، حدّثيني قليلا عن مسقط رأسكِ...عن طفولتكِ...أو أي شيء
ــ فلتعذر بلادي أنانيّتي ...في هذه اللحظة لا أذكر من الإنصاف فيها مايقال ...
بعضهم يخلق من اللاشيء ألف عار..وبعضهم من العار لا شيء يُذكر...ومن الحلال فضيحة
لا يرضاها الرحمن الرحيم...لكنني أحبهم...ذنبي أنني أحبهم !!
وأخيرا...استلمتُ ورقة بيضاء فيها سطر واحد يحكم مصير هذا الذي يكاد يتحرك في أحشائي
يكاد يصرخ في دمي .. ماذنبي أنا ومن أنتم كي تسلبوني ببشاعتكم حقي المشروع
وأكاد أهرب منّي ...منهم...من ورقة كأنها ابتلّت بدمي بعد انتصاري عليها ..
مسكت بمقود سيارتي دون أن أربط حزام الأمان دون أن أعير اهتماما لإشارات المرور
بلهاء في شوارع غريبة...يلاحقني صوت الإنذار والرعد والبرق والدمع
حيرتي تسابق نبض قلبين ...ياسادتي : نسيتُ أن حفنة من الموت السريع...
ثمنها قضاء ليلة بطيئة في غرفة التحقيق...
دعوني أنام عميقا...
علّني أحلم قليلا بلون عينيّ مولودي القادم !!
//
أمـــــل