في يوم غائم تعثرت فيه الرياح على النوافذ الخشبية التي زرعتها قبل سنوات على هيكل بيت تسكنه الأشباح بعد أن هجرته القلوب التي كانت بضجيجها تملأ المكان.. في ذلك اليوم تصفحت شهرزاد دفتر مذكراتها باحثة في مهمهات الأمس عن ذكرى عزيزة،حاولت أن تقرأ فيما بين السطور وبكل الملكات التي تحتويها لعلها تخترق ذلك الحزن الشفيف الذي ألصقته السنوات العجاف فوق صدرها، لكنها شعرت بألم دافق يستنزف أحشاءها.. ألم من نوع خاص.. تداعيات أمس سقط في براثن حمى مجهولة المصدر وإرهاصات نفس عذبتها الذكريات وأوردتها مورداً متعرجاً غير ذي بال.
ألقت بدفترها جانباً وأشعلت لفافة تبغ ..
في داخلها كان هناك شيء يشبه الفراغ والعتمة.. شيء ليست له أية مسميات.. لا ينتمي لأي عالم من العوالم المحيطة أو اللاكونية ..طرق سمعها حفيف الرياح التشرينية وهي تصطفق على نوافذ حجرتها في العليّة، الحجرة التي لم تدخلها منذ زمن بعيد ولعل الذي خلفته أتربة الفوضى والدمار قد أغرق كل ذكرياتها في دوامة لا انقطاع لها.. فكرت لو أنها تفتعل شيئاً ما جديداً.. كأن ترتقي السلم الحجري وتصعد إلى حجرة الأشباح تلك.. لم لا؟ تساءلت في داخلها ما الذي يمنع من أن أتحاور مع أشباحي الذين يسكنون معي هذي الدار الموحشة لعلنا نؤنس بعضنا بعضاً.. لعلنا ننسج عالماً آخر لا يسكنه الفراغ المعتم؟
ولعل ما شجعها وأورد في خاطرها تلك الفكرة هو ذلك الحفيف الشديد الذي تصطفق جراءه نوافذ المنزل كلها.. في أول خطوة نحو السلم الحجري تناوشها هاجس من صوت بعيد:
- كلنا بالانتظار منذ زمن طويل، تعالي إلينا فنحن نحتاج إلى رفقتك .. هلم ارتقي السلم وتعالي إلى العليّة..!
وعلى الرغم من عدم اهتمامها بشيء وعدم إحساسها بالحر أو البرد ارتجفت أوصالها هلعاً من خوض تجربة لم يسبق لها أن تواردت إلى ذهنها .. فكرت أن تعود أدراجها لولا ذلك الشعور المبهم الذي استنزف ذاتها المتعبة غير المبقية على شيء.. كانت المسيرة بطيئة وطويلة والصوت البعيد يقترب منها كلما خطت صعوداً خطوة بعد أخرى، وجدت نفسها عند الباب الذي سكنت أركانه خيوط العنكبوت المتدلية من السقف ، وأمسكت بيد مرتعشة مقبض الباب الذي كان وعلى الرغم من مرور السنين دافئاً يحتفظ بحرارة اليد التي كانت في يوم مضى تمسح دموعها المتساقطة على وجنتيها، وتمسد لها شعرها الأشقر الذي غدا اكثر بياضاً من الثلج ..
خالجها ذلك الشجن الخفي الذي هجرها كما هجرها الجميع من قبل وهي تنصت إلى صوت *الكرامافون المزروع على منضدة من خشب الزان .
الاتربة والغبار يحتلان أجواء الحجرة الباردة كالزمهرير..صور طفولية قديمة وأخرى تحمل في طياتها شباباً والقاً وعنفواناً وأخرى أنحلتها الشيخوخة وصوت شجي دافئ يغني:
(ون يا قلب ون ون ون، لا تتبع العافوك، وتظل شماتة راح ولفي د ون يا قلبي)
استقبلتها جموع الاشباح بصوت واحد:
-تأخرت طويلاً في المجيء الينا وكنا في الإنتظار .. كنا نعلم أنك ستواصلين المقاومة حتى تدخلي بوابة الحجرة ..أنظري كم هي مألوفة أشياؤها لديك إنها الحياة التي تبحثين عنها ولم تفكري قط بزيارتها! تعالي وانضمي إلى كوكبتنا لأننا الأهل والأحبة والأصدقاء..!!
حالة من دفء غريب تخللت مسام صدرها الموحشة لتبعد فزعاً أخلد في دخيلتها وهي تنظر إلى الأشياء المركونة في حجرتها المغلفة بالغبار..! رائحة دخان تنبعث من أحد الأركان..صوت ضحكات تتناوش بالنكات آلامها المتناسلة .. عيون ترقبها بترصد واستهجان.. يخترق مسامعها صوت دافئ حنون : تعالي حبيبتي.. كم اشتقت لاحتضانك يوماً بعد الرحيل، إنه ليس حلماً بل هو الحقيقة !أنت معي الآن صبية مرحة عطوف كما كنت من قبل. تعالي أسكب لك كأس فرح جديد بعيداً عن كل المنغصات التي خلفتها الأيام .. وانسي ما حل بك وحولك من دمار وغربة وضياع .. تعالي لنلفك بين أحضاننا ونزيح عن كاهلك هموم الامس واليوم لا تفكري بما يحمله الغد لأنه ليس لك.. تعالي وانضمي إلى هذا الحشد من الأرواح التي سبقتك ..!
كانت شهرزاد تغوص عميقاً بين الأتربة والغبار ..لم تعد تسمع اصطفاق النوافذ ولا هواجس النفس ولا رياح تشرين الخريفية ولا دويّ القهر والعدم ..كل ما لديها الآن روح تحلق في فضاءات .. لانهائية تقتبس منها أحلامها المؤجلة والمضيّعة.. نسيت كل شيء حين لم تعد تملك ذلك الجسد المتواطئ مع فوضى وإسقاطات الواقع.. تحررت أخيراً من القيود التي ربطتها عمراً كاملاً تحت ضغط مستمر..لترقص مع الأشباح والأرواح رقصة الوداع الاخير.
في الصباح كان الناس يحملون نعشاً لامرأة سقطت من عليّة ذلك البيت المسكون .. ومن نافذة العلية تنظر عيون ضاحكة مودعة ذلك الجسد الفاني، صوت الكرامافون يردد(وين رايح وين)..
*الكرامافون جهاز لسماع الاسطوانات القديمة
التوقيع
صرتُ لا أملك إلا أن أستنطق بقاياك .. لعلها تعيد إليّ بعض روحي التي هاجرت معك..