يرى فرويد أن الأدب تعبير مقنع وانه تحقيق لرغبات مكبوتة قياسا على الأحلام.. وان هذه المقنعات تعمل حسب مبادئ معروفة وهناك فكرة عن وان هناك مستويات ومدارج عقلية تقع وراء الوعي وان بين الرقيب والرغبة في التعبير صراعا مستمرا ..
ان قراءة النصوص او العمل الأدبي تعتمد على المتخيل والمتخيل الأجتماعي لأنهما يتنافران عن الواقع بفعل المخيلة التي تتعداه كونه يتسع لعالم من الأفكار والأساطير والآيديولوجيات وبين علاقة الفرد بالمجتمع والصراع الدائر بينهما زمانا ومكانا ولهذا فان قراءتنا تتمحور في قلق الأمكنة في (حدث ذات مرة )المجموعة القصصية للقاص سلام نوري والصادرة عن دار الشؤون الثقافية 2001 بغداد .
ان المكان في اغلب الأحيان يمثل التمرد الفكري كمحاولة أخيرة للتغلب على حالة الاغتراب والنفي والتي تميز بين النفي القسري والنفي الطوعي ،ان حالة تشبث الإنسان بالمكان هي حالة إيقاف الهجرة المستمرة للذات والبحث عن مستقر كرد فعل قوي للاجهاض على حالة الغربة فيما لو لم يجد الإنسان مكانا ثابتا يأويه لذلك تجد ان حالة الإرهاص الداخلي تتسيد المكان من خلال حالة التداعي النفسي بالعودة المتكررة الى وحدات سردية يشكل بؤرتها المكان والزمن الذي تتقاطع عبره أحداث الصراعات كنمط حياتي متكرر خارج من نطاق العزلة / المكان وهذه بعض شواهد تسيد القلق في الوحدة المكانية عند سلام نوري (في آخر مرة أطلقت لساقي العنان باتجاه مدن أخرى .. مدن بلا أسوار بلا مستحيل ..بلا ضجيج ..عبرت الحدود ،عقدت صفقات أخرى لمطاردتي ص8 ) .. ان المدن تعني المكان والمطاردة تعني القلق وعدم الاستقرار بيد ان القاص للخروج من مأزق القلق في المكان يقع تحت سطوة الأسطورة كتضمين سلبي عندما يتخيل كائنات لاتنتمي إلى جنس معين وهي تغادره (رؤوس طويلة ، قصيرة ،جماجم ،تأتي من المجهول ..وقف احدهم لم أبصر سوى عينيه وقرنيه الحلزونيتين ص9)وهذا يذكرنا بسربروس في الأسطورة اليونانية (كلب بثلاثة رؤوس يحمي باب هاويزا أو عالم الموتى من أن يدخله الأحياء )أضرب هذا المثل لأن القصة خارجة من نطاق الفنطازيا ،ان سلام نوري برغم هذا التدفق من القلق المكاني الذي ينتاب اغلب النصوص إلا انه يأخذك بلغة صافية هادئة بسيطة تتناقض كليا مع المضمون وكأنه يخفف حدة القلق الذي يعانيه الراوي أزاء المبنى الحكائي الذي يشتغل عليه في محاولة منه لخلق حالة موازنة بينه كسارد يتحدث بلغة الأنا وبين المتلقي القاري (كنت أكثر صلابة قبل أن يغادرنا أبي لكن لرحيله اغرق كل بساتين الأمان ،قذفتني محطات فانية ابحث في وجوه الآخرين ثمة من ينتظرني ص12)..
اعتمد سلام نوري على لغة روائية بسيطة حال دون ان تحقق حالة انفعال لدى القارئ تتوازن مع قوة النصوص الواردة في المجموعة ،ان لغة القصة القصيرة تختلف اختلافا كليا عن لغة الرواية وكما يصفها ادغار الن بو (ان الرواية لا تمتلك مثل هذا التماسك الموجود في القصة القصيرة وغير قادرة على اكتساب القوة الهائلة التي يمكن اقتباسها من الهيئة او الشكل العام ويرى ان القصة القصيرة تختلف عن الرواية لأنها أكثر سموا من الأخيرة )
لكن هناك رؤية خيالية أصيلة حين يعتمد القاص سلام نوري الى المزاوجة بين إحساسه بالجدوى واللاجدوى بين الخوف والاطمئنان وهذا يذكرنا بروايات ديكنزفي إحساسه بالغرائبية البشرية والحيوانية حيث انه يمنح كل شخصية غرضا واتجاها بوصفه حقيقة وجود مركزية في بنية النص مثل ( ان هناك من الضفة الأخرى من البحر داهمتنا أسراب هائجة من الطيور الغريبة ، زرعت مناقيرها في عيوننا ، انقضت علينا تاركة بركة دمائنا ان تغسل البحر ص 18).
ان قصص المجموعة اعتمدت على تغيب البطل او تلاشي الشخصيات فقلما تجد في نص شخصية باسم العلم فالراوي يتحــدث
بلغة الأنا اللا مستقرة والمستبدة ويستخدم توظيف الغائب المتخيل بوصفه ضربا من المجاز الأمر الذي يحمل في طياته نوعا من السخرية اللغوية في هذا الاشتغال المهووس بالكلمات نجده بأسلوب آخر في أعمال كلاريس لسبكتر الكاتبة التي ترى الكلمات أشياء محسوسة وأبعادا مراوغة .. ان قلق القاص وخوفه من الأمكنة التي تشتغل عليها نصوصه هو قلق له مايسوغه وأحاول ان أشير إلى بعض موارد القلق ضمن الرقعة المكانية الواحدة في بعض النصوص .
(بحث في كل أرجاء المدينة عن سكن يأويه وعائلته غير انه لم يفلح ..تساءل في سره ما هذه الغاية اللعينة ان أبحث عن شيء في طريق مجهول لايخلف سوى اليأس ص22).
(البيت مزدحم ، محظوظ من يحظى بلقائه ،أجساد النساء المتراصة ، الفزعة تراقب انفتاح وانغلاق الباب تصعد الأرواح الى السماء، تنزل الى عالم الظلام ثم تعود وقد انتابها القلق ص 28 ).
( الغربان المذعورة تعود للمرة الألف ، تطلق حممها ، تزف الموت لأبناء دجلة والفرات هذيانات بأقنعة سود لاتجيد سوى ان تلوث السماء بالفواجع ص40) .
بقي ان نقول استطاع القاص سلام نوري ان يخلق له مكانة ومناخا قصصيا خاصا به عبر بنى حكائية ناضجة اسسها ككيان خاص به وباستطاعته ان يخلق من قصصه القصيرة روايات عبر حسه ونفسه الروائي ربما يثير الأهتمام .