طوال سنوات عمره الماضية لم يكن يقوى على مجرد النظر في عينيه، ويتحاشى مجادلته او معارضته. الى ان هرم وبدأت ذاكرته تخونه ولم تعد قدماه تحملانه، جسده الضخم تضاءل وشاخت عضلاته. كل الجبروت تلاشى مرة واحدة. كان يحمل له ضغينة لا مثيل لها وحقدا يملأ الآفاق .. والآن يجلس أمامه ضعيفا متهالكا تزيغ نظراته وصوته القوي أصبح همسا مبحوحا، ولسانه فيه تعرجات تبطأ من تسارعه.
منذ كان طفلا وبعد ان تجاوز مرحلة الشباب وهو يهابه، وعندما تزوج قتل فيه رجولته أمام زوجته التي استقوت عليه وصادرت منه شخصيته.
ما اسوأ تلك الأيام وما اشد قسوتها، يعمل ليل نهار ليرضي زوجة شريرة لا تقنع وأبا لا يستكين ولا يهدأ، أوامره لا تنتهي وشتائمه تسيل في مجرى لا يجف. قلة الاحترام والاهانة أمام أي كان. يكره الدكان ولا يحب زبائنه الذين كٌشف عنهم حجاب حياته الخاصة.
كان يتمنى اليوم الذي يستطيع فيه الانتقام منه، لم يحس به كأب تجب إطاعته، رغم كونه ابنه الوحيد الذي بقي له بعد وفاة زوجته؛ تلك الأم التي عاشت وماتت دون ان تهنأ كغيرها من النساء وقضت حياتها كالجواري. أتى بها من بلاد بعيدة هاربة من أهلها الذين تحكمهم جاهلية القتل والثأر وامتهان النساء. لا يذكر منها الا دموعها وهذيانها وتمتماتها أثناء نومها. وعندما ضربتها جلطة على دماغها وأثناء وجودها في غرفة الإنعاش لم تتوقف عن التمتمة والهذيان. كانت لوحدها عندما أسلمت الروح، وكان قد أوصى شيخ الجامع بدفنها اذا ماتت أثناء غيابه في المدينة يحضر جنازة زوجة رئيس بلديتها. وعندما عاد بعد عدة أيام أقام لها العزاء ليوم واحد فقط.
يجلس وحيدا بجانب سريره في المستشفى وهو يطالع عيناه الشاخصتان الى سقف الحجرة يوسوس له الشيطان بما لم يفكر به أبدا- قد يسترجع عافيته وتعود الأمور الى ما كانت عليه. لا بد ان تتغدى به قبل ان يتعشى عليك- كان كل أمله ان يخرج من جحيمه الى جنة الحرية التي كان لا ينام حتى يحلم بها ويعيش في ربوعها قبل ان يصحو على واقع الرجل الراقد على سرير الموت بعد ان سلب منه طفولته وشبابه.
- تخلص منه الآن، لا احد يراك ولن ينتبهوا لما ستفعله.
- ولكن لا حول له ولا قوة، لن يطفئ ذلك غل قلبي .
- اسحب ذلك الأنبوب لدقيقة واحدة، وسينتهي الأمر بسرعة.
قرّب يده قليلا ثم تراجع .. نار الانتقام تنتشر في عروقه، يشعر بحرارتها تلهب عينيه التي اغرورقت بالدموع، تجربة القتل الأولى صعبة، لديه الجرأة الآن ولكن شعور الندم أقسى وأمر المسامحة قد تقتل تردده وتغنيه عن الخطيئة، ولكن شهوة الثأر تستولي على كيانه. مد يده مرة أخرى وهو مصمم على إنهاء الأمر، امسك بالأنبوب وأغمض عينيه فشملته رجفة وهو يقبض على طرفه بشدة ليسحبه بكل قوة، وفجأة أعلن جهاز القلب توقفه عن العمل وملأ رنينه الغرفة حاول ان يتماسك ويسترد هدوئه الا ان أعصابه خانته فصرخ صرخة عظيمة تردد صداها في جنبات المستشفى وخر مغشيا عليه.