أصداء الذاكرة
تمتلئ عيني بالصفاء و البراءة . لا أعرف القيد ولا تعرف السدود حينها طريقي . بداية فطرية يكسوها الجلال وبراءة الطفولة النقية . لا أعبأ بالجري ولا أحس بالتعب أقضي النهار كالطير أمرح وألعب في براح الدنيا المتاح لي مع حذر الأبوين وخوفهم علي . كنت إذا أحسست بالملل خرجت حيث الفضاء والحماد أتنقل فوق شرايين الماء التي تروي الزرع . فيها الذي جف ماءه وفيها الذي مازال يحتفظ ببعض الماء أو مازال الماء يسري فيه لري حقل من الحقول . ألهو بالطين الزبد فأصنع لنفسي طريقاً للهو واللعب بعيدا عن الأنداد من الأطفال .أمارس هوايتي التي أعشقها وأحبذها فالطين الزبد أصبح لعبتي ومبتغاي أعجن فيه وأزبد حتى يصير متماسكا في يدي ،أصنع تمثالا لرجل لا أعرفه أو شكلاً من الأشكال كحمار أو بقرة أو شاة أو شكلا يشبه بيتاً صغيرا أو تمثالاً لأبي الهول أو لزعيم من زعماء مصر أصحاب الطرابيش كسعد زغلول أو مصطفى كامل أو عرابي ولا أعطي للوقت مقداراً واهتماما حتى وإن أحرقتني الشمس ولفحتني فلا أعبأ بها أو بحرارتها حتى أحس بالغروب وتصفر لون الأشعة وترفع أشعتها لتسكن أطراف النخيل وأرى طوابير الطيور عائدة إلى أعشاشها لا أفكر في طعام ولا أخشى إلا شيء واحد فقط أمي وأبي إذا عاد ولم يجدني أمامه فقبل أن تغرب الشمس في مغربها أعود أدراجي خوفا من الظلام وخوفا من أبي وأخبئ
ما صنعت في ثيابي وأجل من جلبابي مخبأ لا يراه أبي ولا تراه أمي ولا أحد من إخوتي وأغسل يدي وأزيل أي علامة أو أثر حط على ملابسي حتى لا يعرفوني وأنال علقة ساخنة بالعصا من أبي وأحرم من الخروج... في اليوم التالي أخرج إنتاجي الطيني وأضعه معرضاً إياه للشمس ليجف وأنتهز اللحظة التي تحمي أمي فيها الفرن للخبز وأغافلها وألقي بتماثيلي تمثالا بعد تمثال في العين المحمية دون أن تراني حتى تقوم بحرق التماثيل ويتغير لونها وأحمل الصبر بداخلي وأنا أترقب انطفاء النار وتحولها إلى رماد في الفرن لتخرج تلك التماثيل وأخرج بها أمام زملائي وأقراني أتباهى أمامهم وهم مندهشون من صنيعي وتأخذني النشوة حين أرى واحد من الأطفال حولي ينادي على الآخر وهو ينظر إلي في اندهاش ويقول للأخر تعال وانظر ما عمله وما صنعه هذا بيده من الطين. وكثيرا ما كنت أجد الاستغراب والتكذيب من البعض وهو لا يصدق أنني صانع لتلك التماثيل والدمى، فكانت تغمرني السعادة وأنا أطير فرحاً كالطير وهو يحلق في السماء وأجدد في ابتكاراتي كلما سنح لي الهروب فأجتهد في كل يوم أن أصنع شيئا جديدا . أذكر أنني أخذت أحد التماثيل الطينية المحروقة وكان تمثالاً لرجل فلاح يحمل فأساً على كتفه وقد صنعت له شعراً برأسه من شعر الماعز وقد قمت بلصقه بالصمغ البلدي الذي كنت أحضره من شجر السنط القريب من منزلنا والذي عادة ماينمو عندنا بكثرة على ضفاف الترع فصنعت له لحية كثة وحكت له جلبابا من قماش قديم وخرجت به إلى الشارع وكلما مر أمامي رجل أو امراة أو طفل أتصنع الوقوف وأقترب منه ليرى ما صنعت. حتى مر أمامي رجل له قيمته العلمية في قريتنا وكان من أصحاب الطرابيش فلما رآني أهلل وأقترب منه كأني أقصده دنا مني وناداني ومد يده وأمسك بالتمثال وأخذه من يدي وراح يقلب فيه وهو معجب ينظر إلي ّولفظ الجلالة لم يفارق لسانه وهو يسألني من أين لك هذا؟. قلت : إنه ملكي... ألرجل المطربش : يا كذاب من أعطاك هذا... والله يا عمي ملكي وأنا الذي عملته بيدي صدقني يا عمي...! فأنا يا عمي لا أكذب فما منه إلا أن وضع يده في جيبه وأعطاني قطعة معدنية فئة الخمسة قروش فضية وأخذ التمثال مني، نظرت إليه ولا أعرف ماذا أقول فالقطعة المعدنية فئة الخمسة قروش كانت لها قيمة وأول مره توضع في يدي قطعة مثلها حتى أن أبي كان لا يعطيني مثلها وقال لي أنت تأخذ هذا لتشترى به حلوى وأنا سوف آخذ هذا التمثال. تمنعت في البداية ولكني وافقت خجلا وسرورا بالخمسة قروش.. ولم أعرف أن الرجل يمت إلينا بصلة قرابة حتى أخذني أبي في صبيحة يوم عيد لمعايدته لأرى تمثالي قد علا الرف في حجرة الاستقبال يستقبل الناظرين، تتجه إليه الأنظار كتحفة فنية تجذبهم وصرت بعدها أذهب كل عيد لأراها دون أن أعلن أو أصرح بصنعها ولم أستطع حتى أن أصارح أبي بها وأنا أنظر إليها متحسرا وألعن أبو الفلوس ولم أصنع بعده تمثالا مثله أبدا...