سالت الدماء دافئة من فمها لتخضّب أوراق الشجر الخريفية الباردة التي افترشت أرض الغابة في سكون ووله, منحتها قطرات المطر المنسكبة على وجهها صحوة واهية , خريف روما قاس جدا هذا العام.
خلعتها قواها كرداء بالٍ , وألقت بها جسدا متهالكا عاريا تنهشه أنياب البرد وتقطّعه مخالب النّدم, متخلية عنها في أكثر لحظات حياتها احتياجا لقليل منها . وبدأ شريط الأفكار والذكريات يتراءى لعينيها الذابلتين التين تقاومان النعاس الأخير .
قذف بها من سيّارته بعد أن أوسعها ضربا, وكاد أن يحطم جمجمتها على الزجاج الجانبي , كل ذلك حين طالبته بالنقود التي اتفقا عليها لتمنحه السّعاده .
يالي من عاهرة وضيعة أستحق كل ما يجري لي الآن . ألست أنا من قطع المسافات ,وغاص في عالم المستحيل ,في سبيل مال أحصل عليه من هذا العمل الدنيء .
ارتضيت أن أقف على قارعة الطريق وأمارس الجنس مع كل الذين يستطيعون الدفع , وياله من مبلغ حقير , لكنّه يليق بي , لأنني حقيرة أيضا .
سأموت في هذه الغابة النائية كحيوان وضيع , وسيعثرون على جثتي بعد أيام وقد نهشتها الكلاب , وتصاعدت منها رائحة ممزوجة بالجيفة والعهر والوضاعة.
ماذا سيقولون لولدي ؟ . ماتت أمك عاهرة ؟!! . ماتت كخنزير اصطادوه للمتعة فقط , ثم تركوه ملقاً لتقتات على جيفته الكلاب وديدان الأرض إن استساغت فتات لحمه النتن .
لن يسامحني أبدا , بل سيتبرأ مني ومن اسمي ,سيتلبس روحه الطاهرة شيطان العار, وتنمو بين جنبات قلبه الخصب نبتات الحقد المتسلّقة . سيكرهني للأبد .
لن يعلم أني ما فعلت كل ذلك إلّا لأجله . فعلته بعد أن غلّقت كل الأبواب في وجهي , بعت الغالي والنفيس وكلّ ما أملك , لم يتبق إلا جسد انتهكته الأيّام واستولى جبروت الشقاء على جلّ فتنته , لأبيعه بثمن بخس قد يفي بتكاليف العمليّة الجراحيّة .
هل سيخبره والده أنّه رفض حتّى الاستماع إلي , وحين فاجأته في مكتبه وطلبت منه المال قال اذهبي إلى الجحيم أنت وولدك.
لن ترسل له البنوك تخبره أنني لم أدع مصرفا إلا وتوسلت موظفيه وبكيت راجية أن يساعدوني لأحصل على قرض يفي بتكاليف العملية الجراحية , لكنّي لم أستطع تأمين حتّى كفيل واحد, رغم استغاثتي بكل من ظننتهم أصدقاء.
كيف سيعلم أن المال الذي كنت أجنيه من عملي لا يكفي حتّى ثمنا لدوائه أسبوعا واحدا .
من سيخبره أني عملت في البيوت خادمة بعد الانتهاء من عملي , نسيت التعب والنوم والراحة في سبيل علاجه , ومع كل ذلك لم تكن الأموال تكفي .
نعم يا ولدي لم يتبق لدي سوى جسدي لأبيعه في سبيلك , هو أغلى ما أملك , بل كل ما أملك .
لست عاهرة ولم أكن يوما , بل الحياة هي قوّادة كبيرة , اختارت جسدي لتقذف به في دروب العهر مستغلة ضعفي وانعدام حيلتي .
أقسم لك بحياتك أنني كنت جسدا بلا روح , أفعل كل ذلك وأنا في عالم آخر , أمنحهم جسدا لم أكن بين جنباته .
تغادرني روحي كيمامة بيضاء تفرد جناحيها لتحملها رياح الشّوق والوجد إلى من تحب , بمجرد أن يهمّ أحدهم بقذف المزيد من السمّ في جسدي المليء بطعنات الزمن واليأس .
ظننت أنه كابوس مقيت خانق , سرعان ما سينقضي لأعود محمّلة بالمال اللازم لإنقاذ حياتك . حينها سأكذب عليك وأحدثك كيف وصلت الليل بالنهار في سبيلك,سأرسم على جدران وجدانك البيضاء صورة أم تشبه الأم تِريزا. أروي لك حكاية امرأة لاكها الزمن وبصقها على قارعة الأمل بقايا امرأة.
لن تعرف شيئا مما فعلت , وستنجو وتعيش ولأمت أنا في اليوم ألف مرة, ليهجرني النوم , ولتودّع جسدي الصحة والعافية , ولكنك ستعيش وقد تنسيني بعضا من آلامي.
لقد خسرت كل شيء يا ولدي . هاأنذا أفارق الحياة غريبة , وحيدة ,قذرة الرّوح, يلف جسدي وشاح أسن لن تنزعه الأيّام . فشلت في جمع المال الذي انتهكت كل مبادئي لأجله , لن يكذبوا عليك وستعلم أنني رحلت عاهرة ؟! .
ليتني أستطيع أن أراك لثوان قبل أن أرحل , لأخبرك كم أحببتك , لأعانقك عناق الوداع , لأقبل يديك وجبينك الوضاح وأطلب منك أن تسامحني . لأبكي تحت قدميك علّ دموعي تغسل عارك وذنوبي . لأقول لك :
لست عاهرة يا ولدي بل الحياة هي العاهرة.
توقف المطر , وكف عن مداعبة وجهها الشاحب وحثّه على اليقظة , أثقل التعب جفنيها الوسنين . وبدأ النعاس الأخير يتسرب إلى حدقتيها العسليتين .
شعرت بخدرٍ لذيذ , غشت لواعجها طمأنينة قادمة من اللامكان , تناهت إلى مسامعها ترانيم هادئة تأتي من بعيد .
ارتسمت على ثغرها ابتسامة جميلة طاهرة , رأت وليدها يرفل في غمامة بيضاء, تحيط بجبينه هالة من نور , ومن خلفه درب أخضر تتعانق على جنبيه أشجار محملة بالثمر , يمد لها يديه مبتسما .
لقد تأخرت يا أمي , فأنا أقف ها هنا منتظرا منذ الأمس .