نادل المقهى العجوز
- 1 -
هل تسمرنا عند فاصلة الوهم؟ وهل طابت لنا دار مقام..؟ أم هو الوقت يطلبنا للقفز عن فاصلة التيه بين الغفوة والحلم لنهرب من عذاباتنا, ونمتطي الحلم برغبات وشهوات مستحيلة والوقت كسير, والريح صفراء تمطر شياطين عذاب.. تأكل منا اللحم وتهرس العظم.. تطرد الروح إلى ذاكرة دخلت مواسم الجفاف, باتت حقل أزهار ذبلت عند شهقة عطش.. نصحو فتمضغنا الرواية..
أي رواية تطفئ فينا عطش الظامئين يا امرأة من عطش.. فالبتراء يانعة في بطن التواريخ الغابرة, منقوشة في بطن الجبل.. ذهبت الملكة يا سيدتي وما زال الحجر!!
وأنتِ, ماذا تبقى فيك من رياح السومريات..أين منكِ عبق جلل وجه الضفتين قرونا بالبهاء..
وأنا هل يعمدني الأردن مثلما فعل مع المسيح.. أم تراني سأظل المرجوم بالغربة بعد أن شطبوا عسقلان من الخرائط.. جعلوها " أشكلون " علامة استفهام مبهمة بين قوم وعد الرب وخير أمة أخرجت للناس..
أه من جور الزمان.. لم يبق من الخير إلا بعضه بين دجلة والفرات, وبعض الدم المسفوح حول مسرى النبي يندلق نهرا يحفر مجراه حول مستراح هاشم جد الرسول في أكناف غزة
هل تعود بنا الأجندات.. أم هو الوهم يأخذنا إلى حياة غير ما نحيا..
آه يا لهفي ولهفكِ من طول انتظار الغائب حتى يعود..
متى نهبط مع غيم الوجد قطرات ندى على خد وردة, والأقدار تأخذنا عنوة عند فاصلة الانتظار..
- 2 -
إني تعريت من الوهم, وامتطيت راحلة الوقت إليكِ, لم تخذلني المعابر والمتاريس, ولا وشى بي الأردن للذين ينتظرون موتي.. أخب في الطرقات لم أجد غير عجوز يبسط راحتيه.. فالتبس الأمر عليَّ, إذا ما كان يتسول أو يبتهل .. نفحته بعضا من زادي.. ضحك:
- خبزك يا فتي لا يعصم من جوع ولا يغني عن عطش
- من أنتَ يا سيدي.. من تكون؟
- أنا حارس القبو.. نادل مقهى الذاكرة, كيف وصلت إلى هنا يا فتى؟
- على ظهر راحلة الريح
- من يتسلل مع الريح لا تدب خطاه على أرض الحقائق.. لا ذاكرة بدون أرض!
واختفى الرجل.. وحملتني الريح إلى خاصرة الجبل, بين سقف الله وقعر الوادي.. صرتُ مع الحيرة فوق العتمة وقبل الضوء.. وسمعت صوت امرأة اعرفها يأتي على رجع ناي بعيد..
وصحوت عند فاصلة الأجندات.. هل أعود أدراجي.. اقطع النهر إليكِ.. اترك وشم خطواتي على وجه البحر الميت وقد غاض منذ التيه في الأخدود العميق.. اصعد من قاع اللعنة إلى درب آلام المسيح في القدس, وامشي الرحلة دون إكليل أتخفى عن عيون الراصدين.. كم مرة مشيت الرحلة يا سيدتي.. كلما انتهيت عدت أبدأ من جديد.. هل أتيت بعد سيزيف أم تراه جاء بعدي.. أنقذيني يا سيدة الحضور.. هل أنتِ هنا أم هناك..!!
صوت النادل يسخر مني:
- هي دائما هنا وهناك
كيف أن ألقاكِ.. وأنت للوقت سبية مدماة من رشق ذوي القربى وأنتِ ما خنتِ, ما عرضتِ دلال الفاجرات ثم تبتِ مثل المجدلية.. أنت جئت مبرأة من كل الخطايا إلا من خطيئة قلبك الذي يرضع من زيت الجبل.. لا مسيح في هذا العصر يغسل إثم الوجد فيعود إليكِ وجهك.
وأنا المنذور للتيه أبحث عن أميرة خرجت من بابل, انطبعت على مرايا عينيها وصايا أحفاد عربي ضاجع في لحظة وجد نخلة أنجبت منه أميرة سومرية.. كيف الوصول إليك والوقت ضلالة؟ والريح تحمل مطر الطين وشياطين الفتنة وذبح الأنبياء الأبرياء.. هو قدري يا سيدتي أن آخذك إلى خاصرتي..وأفرد قلبكِ جناحين بهما أطير وقد وشمتك على قلبي فراشة, فصار قلبي قنديل فرح..
- 3 -
أني درجت على الأرض ستين خطوة, وبضع شهقات من العمر, خطفوني عن ثدي أمي فرضعت العطش من الجوع, ومضيت غريبا ابحث عن أمي بين السبايا.. هي عسقلان, ذاكرتي التي لم أعشها على الأرض وحملتها بين ضلوعي نتفا من حكايات شوهها الرواة.. صارت فاصلة سكنت بين الحقيقة والخيال.. صارت ذاكرة.. وصرت الغريب ابن الحكاية..
هل تدركين الآن لماذا كلما جئتك تفرين بعيدا, ربما أشبه بعيدك, أو ربما أنتِ ظل أميرة أيامي التي وقعت في الأسر سبية قبل أن يدركني الفطام.. هل أدركت مثلي أن القبو فينا, وأننا ضيفان على ناصية الغربة حتى نعود..
لا بأس يا سيدتي لو اخترنا الحلم جغرافيا جديدة نسطر عليها قناديل الشوق ننثرها في الدروب..
لا بأس لو حمل كل منا وليفة ومضى يبحث عنه في كل الدروب.. لا بأس يا امرأة ما زالت تعبق ببهاء السومريات تجيء في الرؤيا كنعانية تحمل عذابات المجدلية..
- 4 -
قيل أن النادل أغلق القبو بعد أن انقطعت السومرية عن مواعيدها, وانطلق يفتش عنها في دروب المدينة وقيل انه رآها السوق تعرض ثدييها للبيع, وقد ارتسم على جبينها صورة شاب ذبيح, قبل أنه أخوها.. وقيل أنه وليفها وقيل انه الوطن..
وقيل أن النادل العجوز بلع لسانه وصام عن الكلام.. وقيل أن السومرية اختفت بعد أن فقس بيض يمامة القبو عن غربان أنشبت مخالبها في رأس النادل, ونثرت حشوه جمجمته على الجدران, فمات على جحوظ الذهول..
وقيل أن الرواة يتناقلون سيرة الفتى الذي يحمل وليفته على خاصرته, بعد أن هاجمته الغربان فلاذ بالتيه من جديد..