كلما تأملتها ، بدت لي كالمنحوتات السومرية المغرقة في القدم ، المصنوعة بدقة متناهية ، نابضة بكل قوة الحياة و التفاؤل ، أراها أمامي ، تجمع في شخصها كل دهاء الأنوثة الفطري ، براءة لا متناهية ، فتنة عفيفة ، نور متدفق باستمرار من الوجه القمري ، ثقة عالية متجددة بالنفس ، تفيض شباباً و حيوية ، و دفئاً خفياً ، و شذىً معتق .
كان يوماً كانونياً بامتياز ، يوم وصلت إيلاف من المدينة ، لتبدأ مباشرة في تسلم مهام عملها ، أجنحة الريح تحلق في كل الفضاءات ، تنشر البرودة ، تكنس صقيع الصباح ، تنذر بشتاء قاسٍ ، زاد من حلك الظلام المخيم في نفسي ، لكن ذاك الظلام بلغ نقطة الذروة في ذاك اليوم ، ليبدأ بعده التراجع و الانقشاع رويداً رويداً ، مبشراً بحلول صباح ربيعي هادئ جميل ، و من هنا كانت البداية .
جلستْ في غرفة الإدارة ، تستمع و تستفسر عن وضع المدرسة ، و في أول نظرة ألقيتها عليها في ذلك اليوم ، خلت أنني أعرفها منذ عشرات السنين ! لم يكن وجهاً غريباً البتة ، توقعت بل اقتنعتُ أنها إيلاف ، المعلمة الجديدة التي عينت قبل أيام في مدرستنا ، و لكي لا أحمل نفسي غروراً لا مبرر له ، قررت التأكد ، انتظرت خروجها لأسأل المدير : من هذه ؟ قال لي : هذه زميلة جديدة لنا اسمها إيلاف ، دهشتُ إلى حد كبير ، لقد تطابق الاسم و صاحبته لدرجة غريبة ، هتفت في الأعماق : هذه هي إذاً ، أحسست بارتياح عميق ، و بدأت لحظات الدفء المنعش تسري في عروقي ، شكرت حدسي ، و اطمأننت على سلامة تصوراتي ، و من يعرف قد تكون هذه المرة الوحيدة التي فلحت بها في دقة الحدس و بدون أن أرتب الأمر .
تساءلت : أهذه كانت لعبة الأقدار ، من يدري ، فقد تخبئ لنا الأقدار ما لا تشتهي الأنفس ، و قد يكون العكس ، شعرت من يومها أنها أخذت تبث في ثنايا نفسي المظلمة باليأس ، شعاع الأنوار الباهرة المترعة بالأمل ، فوجدت الدنيا تصفو ، و بلحظة لم أدركها ، وجدت كل هذه الظلمات تنقشع أمام أنوار الحب .
شغلني اسمها كثيراً خلال شهور طويلة .. لم يغب عن ذهني أن العرب القدامى كانوا يعشقون أسماء الأمكنة التي عاشت بها الحبيبة ، فكيف إذا كان هذا الاسم اسمها ، رددت في نفسي " إيلاف ، إيلاف " ، كنت أجد لذة في ترديد اسمها بين طيات ذاتي ، لأسمع صداه في كل مكامن روحي ، اختلط الحب و الجنون و جمال القمر و الموسيقى الصاخبة بموجة عنيفة من الفتنة المتأججة في نفسي ، ما أثارني و صلب موقفي تجاهها ، بعدها عن الإيهام المحتمل للرغبات من طرف الآخرين ، إذ التزمت تجاههم خطاً لم تحد عنه ، تجاهلت الجميع بكبرياء هادئ ، و انطلقت إلى رحلتها التعليمية بشغف و حب ، يزين محياها ابتسامة خافتة لم يرصد ذبذباتها غيري ، و عينان براقتان تنمان عن ذكاء حاد ، ينطلق منهما شعاع ساحر ، يخترق القلب ، فيشعره برجفة عنيفة .
صورة مفزعة كادت تسيطر على كل مجريات حياتي ، تشبه إلى حد كبير في أحد وجوهها صورة الشجرة التي دب الجدب في معظم أوصالها ، فلم تعد تزهر أو تورق ، تعطلت فيها كل عمليات التركيب الضوئي ، تساقطت بقايا أوراقها المصفرة و القاتمة منها ، هنا و هناك في مساحة شاسعة من الوحدة و الوحشة المخضبة باليأس ، و خوف بقي شبحه زمناً طويلاً يطارد أشرعتي الهاربة في عباب بحر لا حد لامتداداته .
الشيء الوحيد الذي يخشاه الناس ، الموت .. لم أعتبره يوماً نهاية كل شيء , طالما بقي الأمل منتصراً على اليأس .
وقفت أتساءل مرة أخرى : هل كل نساء العالم على قدر واحد من الجمال و العظمة ؟ لولا هذه الأنوثة الدافقة ، لتسرب اللامعنى في كل شيء ، في الحب و الخوف و الأمل ، و الألفة ، و الحياة .
بحثت عن كل الأقوال التي قيلت في المرأة .. المرأة لغز ، مفتاحه كلمة واحدة هي الحب ، الحب وردة والمرأة شوكتها ، المرأة كوكب يستضئ به الرجل ، وعود المرأة تكتب على صفحات الماء ، راقت لي مقولة " المرأة النصف الأفضل أظالمة كانت أم مظلومة ،من هنا بدأ بحثي عن هذه المرأة " النصف الأفضل " بحثت كثيراً ، لم أجدها ، أحلام كثيرة دفنتها في اللاشعور ، خلال بحثي عنها ، أبقيت حلماً واحداً في ذاكرتي ، تردد بين الأمل و الاندفاع حيناً ، و بين اليأس و العجز أحياناً كثيرة ، لا تسألني عن أكوام النساء اللائي أراهن و أسمع عنهن ، يركضن بلا توقف وراء كل موضة مودرن مزيفة ، و تركب متع الحياة الفاخرة ، و الأحاسيس المادية أدمغتهن الجوفاء ، كنت أرى في هذه النوعية من النساء ثنائية قاتلة ، تجمع ما بين اللذة الآنية و اليأس تتجسد في حياتهن ، فأجد الموت الحقيقي ذاته ، موت يزحف ببطء نحو كينونة النفس البشرية التواقة إلى العوالم الصافية من كل خطيئة ، موت يغتال الحب النقي ، و الأحاسيس المرهفة ، و السمو الروحي ، و يجعل من الإنسان نفسه شخصاً محنطاً .
كنت أجول غرفتي وحيداً كل مساء ، ثم أجلس لسـاعات طويلة ، أحتسي شاي الزنجبيل اللذيذ ، و أنفث دخان السجائر ، قبل أن أدون في أوراقي البسيطة فلسفتي الخاصة تجاه هذا العالم ، و هذا الحب ، و ثنائية اللذة و اليأس ، تذكرت قول أحد أصدقائي ذات مرة :
_ لا تحاول البحث عن حلم خذلك ، حاول أن تجعل حالة الانكسار بداية حلم جديد .
قهقهت ملء حناجري ، استشففت حالة من اليأس تصيبه ، أجبته بثقة كبيرة :
_ أنت مخطئ يا عزيزي ، أنا لم أعـش حلماً خذلني ، بل لم أجد ما أحلم به بعد ، و لم أنكسر .. ربما فشلك في تحقيق حلمك هو الدافع وراء يأسك ، أنت تقترب من حالة الموت الحقيقية .
أجابني :
_ ما أسهل أن تضحي من أجل حبيب ، لكن من الصعب أن تجد حبيباً يستحق هذه التضحية !
سألته بحدة :
_ هل تسمي من خذلك حبيباً ؟ ألا تعلم أن الحب أقوى من الموت ذاته ؟
و ها أنا بدأت أعيش هذه التجربة ، و أعمل جاهداً من تلقاء نفسي ، لأصنع من حبي دائرة مغلقة حولها ، و سياجاً ، و أمنع أحد من الاقتراب منها ، مستمداً معظم قواي من تلك القوة الخام التي تربض كالطود وراء ظهري ، كانت تجربة خاصة و فريدة لحالة مثل حالتي ، تحفزت لأي نوع من أنواع التضحية ، فالحلم الذي لازمني حتى في واقعي ، تجسد أمامي ، بصورة المرأة التي كنت أبحث عنها ، مخلوق يمكن وصفه بالأسطوري ، بلور الحب في كامل طهره ، و أبهى صوره ، وجدته هذه المرة ، فوجدت حبيباً يستحق كل تضحية .
كانت الكلمات تتدفق من شفتيها كحبات اللؤلؤ المنثور و هي تتحدث أمامي ، فراودتني فكرة بالبوح لها .. لا ، لم نكن بحاجة للبوح ، كانت لغة العيون تفصح أكثر مما لو استخدمنا لغة الكلمات ، صفاء العينين ، و بعد أفقهما ، ترجمت كل القيم النبيلة ، الصدق ، الصراحة ، الزخم العاطفي ، التوحد الروحي .
لن أصدق أنها سـترحل يوماً عن عوالمي السرمدية ، و تدعني في هذا الخضم الموحش وحيداً ، سيما أن هناك صورة أخرى لكنها كانت مناقضة تماماً ، تؤرقني باستمرار .. كنت أرى الكثير من الناس و أتأمل حالهم ، ينفقون جلّ كرامتهم لتحصيل المادة ، يركضون دون أي توقف ، لا يهمهم من أين ، كلماتهم الصاخبة لا تعدو الحديث عنها ، و في بعض الأحيان عن مغامرات سريعة مع امرأة لعوب .. أو نميمة قذرة ، ليوقعوا ما بين رجل و زوجته ، أو حسد يلتهم القلوب ، و أفواه فاغرة تريد ابتلاع كل شيء ، من أجل ماذا ؟ من أجل أوهام فارغة يغطون فيها رغباتهم المريضة .
لن أصدق أنها ستدعني ، أصدق شيئاً وحيداً عايشت كل لحظاته ، أنني وجدت نفسي - بعد السير في طريق النسيان الوعر و الطويل ، في الواقع و الأحلام ، و بعد كم هائل من أشرطة الذكريات التي حفرتها كل كلمة سال شهدها من ثغرها ، و نظرة ساحرة قلبت موازين القوى في كياني لصالحها – أصدق بعد كل هذا شيئاً واحداً الآن ، أنني رأيت نفسي من وسط الجموع المتهالكة هناك ، تسمو نحو أعلى قمة في فضاء الحب المتسامي ، بدون خوف أو تردد , لتقف عند آخر مكان يمكن أن يصله حبٌّ من محب .. و تصرخ في متاهات الدنيا :
_ وداعاً أيها اليأس .. وداعاً أيها الموت .. وداعاً أيتها المادة النتنة !
و جدت نفسي هناك ، و قد أورقت بها ، ثم أزهرت من جديد .. و أزهر معها الحب ، للأرض و الشمس و الأنثى ..
الزميل المبدع عبد الحميد .. مرحبآ بك بيننا لتنهل من نبع الابداع والحب ... قرأت بنهم نصك الجميل خيالك ووصفك الجميل أشعرت وكأنني في نفس المكان .. أيلاف امرأة أنثى جميلة رقيقة ... أحييك .. دمت زميلآ مبدعآ دائمآ.. تحياتي