يا مآذن هللي وكبري ، ويا بلابل الروض غردي وترنمي ، ويا دوحة الأزهار هفهفي وتنسمي بشذا العطر فوق كل مبسم .
وأنت يا صاحب الجود والكرم ، و أخا العزيمة والهمم ، جئت من سفر بعيد ، حبيباً على القلوب المؤمنة ، مفيدًا لإصلاح القلوب المتهدمة ، وتنوير النفوس المظلمة .
حيهلا يا رمضان ، يا شهر التوبة والرحمة والغفران ، رمضان الذي أنزل فيه القرآن ؛ ليكون منهاجا للبشرية على مر العصور والأزمان . ينتظره المذنبون المقصرون من الشيب والشبان ؛ ليكون لهم زادًا ورصيدًا في الميزان . فيه تصفد شياطين الأنس والجان . لا سرقة ، لا غش ، لا فجور ، لا خمرة *، لا دنان .
فيه تستبدل الحسنات بالسيئات بعد التوبة واللجوء إلى الرحمن . ما أجلَّك ، ما أعظمك ، *ما أكرمك يا رمضان !!!
فيك الخير كل الخير ، فيك حِلَقُ الذِّكْر تحفها الملائكة بالنور والعطر ، فيك الإحسان والبر ، والمحبة والطهر ، فيك الاستغفار والشكر ، فيك انتصر الخير على الشر ، فيك عمت الفرحة بالنصر في غزوة بدر ؛ عندما دحر جنود الحق جحافل الشرك والكفر ، وفيك ليلة القدر هي خير من ألف شهر ، فيك يحلو السهر بقراءة القرآن والتهجد حتى مطلع الفجر ، وفيك الذكريات الكُثُر .
أنا يا رمضان عرفتك من طفولتي فأحببتك ، والآن بعد أن طوى الدهر*جُلَّ عمري ؛ نظرت إليك من كَوَّة الماضي البعيد فرأيتك - وياما أحلى ما رأيت - رأيت الفرحة تعلو وجوه الصغار والكبار ، الطرقات بالأنوار تتلألأ ، والحوانيت التجارية تعرض كل جديد وجميل ؛ من مفلفل ومعصفر ومقشمر ومعطَّر ومُسَكَّر ، والمساجد بالمصلين تعمر ، والصدق من الجميع يتحدر ويُعمل به ويؤمَّر .
أجد الأغنياء والفقراء يتحابون ، وبما تجود به أنفسهم يبذلون ، والفقراء مع الأغنياء بالجوع مشتركون متساوون ، والكل في هذا الشهر متآخون ، وعن لغو الحديث وفحش الكلام معرضون ، الحياة في الأحياء كالأسرة الواحدة ؛ كل جار يذكر جاره بطعامه فيغرف له مما تيسر ، وربَّة البيت تصنع طعامًا واحدًا ، وعند الإفطار تجد عددًا من ألوان الطعام على المائدة ينشر .
وبعد أن دارت عجلة الزمن مسرعة نحو الحاضر الأليم المدمر ؛ لم أرى البهجة تعلو الوجوه ، أصبحت غريبًا يا رمضان ؛ لا الأهل أهلك ، ولا الخلان خلانك ... ولا المكان الذي حللت به مكانك .
أ أنت غير رمضان الذي كنت أعرفه ؟ أم أنا تغيرت ؟! أم المسلمون تغيروا ؟! كان المسلمون يترقبون هلال رمضان ، الكل يصعد فوق الروابي ، فوق التلال ، فوق الأسطح ؛ يرون هلال قدومك في الأفق من بين سُجَف الغيوم المحملة بالخير الكثير للأرض العطشى ، للبهائم الرتع ، والشيوخ والشباب الركع .
أين رمضان اليوم من الأمس ؟ لم أجد فيك الماضي الذي فقدته ، ولا أُنْسِي الذي أضعته .
رمضان الذي كان صومًا عن الطعام ، وصومًا عن الحرام . السَّنَةُ كلُّها طعام للجسم إلا شهرك ؛ فهو غذاء للروح وراحة للبدن ، وترويض للنفس بالصبر على الجوع ؛ صوم عن الغش والكذب ، صوم عن الغيبة والنميمة ، صوم عن الرياء والنفاق ، عن لغو الحديث والشقاق ، صوم عن الإسراف بالطعام بالشراب بالإنفاق ، صوم عن تسكع الفتيات والنساء لغير ضرورة إلى منتصف الليل في الأسواق *!!
رمضان الذي يقوم الناس فيه بالأسحار ساعة يتجلى الغفار ، ينادي هل من سائل فأعطيه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ أومن عاص يريد التوبة والستر فأستره ؟ أو منقطع فأصله ؟
رحماك يا رب رحماك ؛ لقد شُغِلْنَا عن عبادتك ، واغتنام نفحات دهرك ، وتهاونَّا بطاعتك فهُنَّا على أعدائك ، حتى غُزِينَا في عُقْر دارنا ، فتطايرت الأشلاء ، وتيتَّم الأطفال ، ورمِّل الرجال والنساء عندما أغضبنا رب السماء بكل شيء .
نعم ؛ بكل شيء ، بنزع الحجاب من النساء ، بالكذب بالمعاصي بالرياء ، بالسهر أمام المفسدات لمتابعة المسلسلات ، وسماع الأغاني الماجنات ، بحلول وقت المساء .
أين*التهجد*؟*أين*الصيام*والقيام*؟*أين*التضرع*والدع اء*في*السَّحَر ؟ أين رُهبان الليل فرسان النهار ؟ الذين فتحوا الحصون والقلاع ، وجابوا الصحارى ، واجتازوا الفيافي والقفار ، وعبروا الأنهار ؟
سقيًا لكم ورحمة عليكم أيها الأبطال ، أيها الأبرار ، أيها الأحرار . ونحن معاشرَ المسلمين فينا الخير إلى يوم الحشر ، وفينا قال الله تعالى : ﴿ كُنْتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ﴾ .
نكون بعون الله عندما نتمسك بكتاب الله وسنة نبيه ؛ عملاً لا قولاً ، بالعلم والفهم ، وبالكيف لا بالكم ، فهذا رمضان أقبل ؛ فغيِّروا ما بأنفسكم كي تتغيروا ، وغاروا على حرمات الله كي يغار الله عليكم ، واستبدلوا بالخصام الوئام ، وبالمعصية الطاعة ، وبالذُّلِّ والخنوع كثرة السجود والركوع ، واستعيضوا عن كثرة النوم والرقاد بالجد والجهاد ، ليكون لنا عزاء في الدنيا ، ونجاة من سخط الله يوم المعاد .