من النهاية بدأت تنسل خيوط بدايتي مع الحياة .. مع الحب .. و كان اليوم الأخير خير الختام لمعركة الخوف الطويلة التي جسدت الأمل و الخيال حقيقة جميلة في آن معاً ! حلم تجسد أمام ناظري بأبهى حلله ، بعد زمن من الأحلام ، كنت ككل الشعراء الذين يموتون في الصيف ، و يبعثون من جديد في بقية الفصول ، ليبحثوا عن أحلامهم الضائعة في المثاليات ، و يرتبوا رسائلهم الشعرية في ضحكة طفل ساذجة ، أو جسد امرأة لم تدنس عفتها يد إنسان ! حد دقيق كان يفصل بين الحلم و الوهم ، ربما تختلط الأوهام و الأحلام في ذاتي خلال أيام الصيف ، ربما تتعثر بوصلتي القديمة ، فأفقد اتجاهات الصواب أحياناً ، لكنني أعود في الشتاءات الندية ، أمحص و أرتب و أدقق ، ثم أسير باحثاً عن حلمي من جديد ، حتى كانت البداية . سألني أحد أصدقائي خلال حديث محموم بيننا : _ هل تدع من تحب ؟؟ أجبته بثقة : _ أكيد لا ! _ و عندما يدعك ؟ _ ربما يكون الخطأ في الاختيار ! _ كيف تحب من لا يستحق الحب ؟ _ هذه مسألة لا تخضع لمنطق إلا في أضيق الحدود . _ إذا أنت توافقني في ترك من يدعك ؟ _ ربما ! _ هل تدرك الألم من حبيب يتجاهلك ؟ _ من يتجاهلك ليس بحبيب حقيقي . _ لكن الأشد إيلاماً ، حـب تعجز خلاله عن البوح لمن تحب !! غرقت في ضحكة عريضة من أسئلة صديقي الحادة ، ربما المأساة التي يعيشها صديقي كانت سبباً لكل هذه الأسئلة ، مسحت دموعي من أثر الضحك ، أجبته بصراحة مطلقة : _ الآن فهمت ، الأخ مقيم في السودان منذ سنوات ، و لا يرى حبيبته ، لا يرى سوى الرجال . فضحك معي و قال : _ ليست هذه كل القصة . فكرت في كلماته كثيراً ، و قفز خيال الآنسة إيلاف فجأة إلى الواجهة مرة أخرى ، و أنا أفكر في قول صديقي ( السوداني ) : _ الأشد إيلاماً هو الصمت عمن تحب . تذكرت كل اللقطات الجميلة التي خزنتها الذاكرة ، و قد شارفت المدرسة على العطلة الصيفية ، راجعت كل أوراق الماضي بتمعن ، قرأت السطور و ما بين السطور ، كان فيها ما يسر ، و كان العكس ، و هناك الآن في حي الثورة حيث تربض الآنسة ، و تعد أيامها الأخيرة ، تلملم أمتعتها ، استعداداً للرحيل ، ماذا سيكون لو أصبحت شجاعاً و تكلمت ، و ماذا سأفعل لو أوصدت أبواب الأمل في دروب أحلامي ؟ ماذا لو تكسرت الأحلام الرومانسية فوق رأسي ، و استحالت كابوساً ثقيلاً في يقظتي و منامي ؟ بدأت أتحين الفرصة المناسبة ، حتى جاء اليوم الأخير في العام الدراسي , وقفتُ أمام صفي ، حشرتُ يداي الباردتان في جيبي علني أدفئهما قليلاً ، على الرغم من القيظ الحزيراني وقتذاك ، و طفقت أنتظر خروجها من صفها ، طال الانتظار .. تجولت في الممر الطويل ، لم أراها ، عدت إلى صفي ، و حاولت تناسي الموضوع بكامله ، أدركت أنها كانت تتهرب من لقائي ، من كلماتي ، جلست في أعماق كرسيّ ، تشاغلت في النظر إلى جلاءات التلاميذ ، انتابتني حالة من اليأس المر ، سخرتُ من نفسي ، لمتها بعنف ، لماذا ؟ لماذا يا نفس أوقعتني بمنحدر من الهوى الخائب ، ثمن عزة النفس باهظ ، و الأدهى هي تلك الهلوسة التي تسكعتْ روحي في متاهاتها ، لن أعتب عليها ، لن أحقد ، لن أكره ، ليس هذا من طبعي ، لكنني ألوم النفس التي أخذتني بعيداً في الأحلام بل الأوهام ، حتى اختلطت كليهما ، فلم أعد أميّز ، ثم أخيراً عزيت نفسي ، قلت : _ أنثى عربية بزمن خارج عن المنطق ، الحق معها ! حملت رحى الصراع و هويتُ على أوهامي و أحلامي و جنوني ، فحطمت الجميع ، الرحى و الأوهام و الأحلام و الجنون ، و نفضت يدي ، و التفت إلى تلاميذي ، قلت لهم : _ الآن سأوزع الجلاءات و الجوائز ، اليوم تقطفون ثمار أعمالكم خلال العام المنصرم . ساد الهدوء ارتقاباً للنتائج ، بدأت أذيع أسماء المتفوقين أولاً ، مع منحهم الجوائز مع الجلاءات ، و وزعت البقية منها بالترتيب ، انهمكت في عملي ، و أنا أهنئ هذا المتفوق و أشجع ذاك المقصر ، و قد تحلق الجميع حولي ، و انفرط عقد النظام الذي كنت أفرضه بصرامة خلال أيام العام الدراسي المنصرم ، قلت في نفسي : _ هذا اليوم يومهم ، ليأخذوا راحتهم ! علا صياحهم و اشتدت حماستهم و ضحكاتهم ، ثم انطلقت حناجرهم بصوت واحد فاجأني : _ قيام ! و أطبق الصمت ، التفتُ حولي ، فلاحت لي الآنسة إيلاف ، تقف عند الباب ، و حينما التقت عيني بعينها ، ابتسمت بعذوبة ، خلت أنها جاءت لوداعي كونها لن تكون معنا في هذه المدرسة العام القادم ، انتظرت للحظات ماذا تريد القول ، هززتُ رأسي ، فقالت : _ ممكن أستاذ كلمتين ؟ نهضت من مكاني ، و تسمرت عيوني ، و خفق قلبي ، هل ستعلب معي لعبة ماكرة ، تكويني ثم ترميني ؟ لا ، لا أتصور أنها ستفعل ذلك ، جمال منطقها لن يشذّ عن جمال روحها ، ربما تريد الوادع ، وقفنا في الممر الطويل ، فاجأتني بالسؤال : _ أستاذ ممكن تقول لي الآن ماذا تريد مني ؟ حاولت بسرعة خارقة الظهور بمظهر متوازن و متماسك ، و تجاهلت كل النواحي التي كانت تدغدغني : _ لا أريد شيئاً ، سلامتك ! _ رأيتك تتجول و في عينيك كلاماً كثيراً ! رأتني ؟ كيف رأتني هذه الداهية ، و قد عجزت عن لمح أي أثر لها طوال أكثر من ساعة ؟! و عادت تستنطقني من جديد : _ هل ستودعني بصمتك المعتاد ؟ رباه ! ماذا سأقول لها ؟ شيئاً واحداً أريد قوله ، لكن هل هو ما تتوقعه ؟ شيء حفر في نفسي جروحاً و بسمات ، هل ستتقبل ما أقوله ؟ طال انتظارها ، و طال صمتي ، قررت أن أبوح لها ، ماذا عسى الجرح أن يتكلم ، و يكلم مرة و أخرى ، ألن يندمل بعدها ؟ قلت لها بكل ثقة ، و قد استعددت لأي جواب محتمل ، في ظل بصيص واهن من الأمل : _ آنسة إيلاف ، لقد اختزنت صفائح ذاكرتي صورك و ذكرياتك هنا ، حتى أصبحت جزءاً من كياني ، كالأوردة ، كالشمس ، كالحياة ، هذه حقيقة . افتر ثغرها بابتسامة لم أستطع تفسير مدلولها ، و قالت : _ ثم ماذا ؟ _ حتى شعرت أن الحياة بدونك عذاب أبدي ! وضعت يدها على خدها ، و الابتسامة لا تزال تفترش وجها الغض ، تستمع بإنصات ، و تسأل : _ ثم ماذا ؟ ضقت ذرعاً بعبارة " ثم ماذا " ، كنت أنتظر منها ضوءاً أخضراً لأتابع بزخم أكبر ، و أنطق تلك الجوهرة : أنا أحبك !! لكن هذه " الـ ماذا " أرعبتني ، و كأن الموضوع عندها نكتة خفيفة ! سألتني أخيراً - بعد أن قذفت كل ما أجاد به لساني - : _ هل انتهيتْ ؟ تسمرت عيناي ، تنتظران انفراج شدقها بالجواب ، و صحت في أعماقي : _ الحمد للـه انتهيت على خير . صمتتْ برهة و هي تجول النظر بي ، ثم أدارت ظهرها و اتجهت نحو الإدارة .. و عادت تلك الغصة المرة تتمرغ في حلقي ، أدركت الآن مدى الوهم الذي كان يسيطر على مجريات حياتي خلال هاتين السنتين من عمري . بقيت أراقب مشيتها حتى دخلتْ باب غرفة الإدارة ، و بعد دقائق قليلة خرجتْ نحو الباب الخارجي دون أن تعيرني أي التفاتة ، فخبا آخر بصيص لي في حبي ، و عاد الظلام يعشش في كل كياناتي ، و جلست في صفي تخنقني عبرة الألم ، ثم نهضت أتمشى في الممر ، أداري لحظاتي العصيبة ، ثم قررت المغادرة ، لم أكد أغادر المكان حتى رأيتها أمامي ، كأنها قفزت من السماء ، لم أصدق ، عادت إلى ابتسامتها المعهودة ، حدقت بعمق في وجهي ، و أنا صامت أراقبها ، سألت : _ هل تعلم من أمهر العشاق ؟ سألتها : _ لست أنا ! _ لم أنت متشائم ؟ _ العقبات !.. مذلة الوهم ، أراك عدت ؟ _ لأنني أحبك ! _ تحبينني أنا ؟ _لأنك أمهر العشاق .. _ أنا ؟ _ أسرت قلبي و حميتني في هذا العالم الغارق في جنونه ! أصبحت الحب كله ، أنت الأمل الذي كنت أعايشه سنتين اثنين ، أنت من بث في قلبي النور و البشرى بأن هذا العالم لن ينتهي بكارثة ، و فيه رائحتك المثقلة بندى الزهور .. لم تتمالك .. ذرفت عيناها قطرات من الدمع .. تأملت شحوب وجهها ، لم أصدق ما سمعته .. انفجرت بضحك جنوني و تعالى صوت قهقهاتي ، أيقنت أنني أصبحت مجنوناً بشهادة من رآني من المعلمين و المعلمات الذين خرجوا ليستطلعوا الأمر ، و قفوا أمام غرفة الإدارة يراقبون جنوني ، و إيلاف بدورها غرقت في ضحكاتها الطفولية ، و تشير إلي : أنت .. أنت , أصابتني حالة من الهستيريا غير المعهودة ، أيقنت أن هذا هو اليوم الذي الأخير في رزنامة السنوات العجاف ، سأنعم فيه بوهج شمس لا تكسبني إلا نظارة في الوجه ، و شباباً في العمر ، تمدني بحرارتها في كل الأمكنة ، تهبني الحياة ، تعيد تدفقها في دمـي ، بعد أن غضنت وجهي سـنوات البحث الطويلة عن يوم أخير للعتمة الباردة ، لأراها أمام ناظري ، تطل بنورها في كل الأمكنـة من حولي ، لتشرق كل يوم قبالتي ، و هي معي تحت سقف واحد .