التلويحة
غادة م.سليم
كنت اعرف بطريقة او اخرى انه يسكن هذا المبنى العالي المغلق، الذي لم يخرج منه أحد أبدا. بدا لي و كأنه بيت للميدوزا او كالبيوت التي نسمع بها، وأصبح البحث اليومي عن مدخل آمن لهذا المبنى كي ألج منه شاغلي وهمي؛ إذ طالما تساءلنا هل يوجد مكان آمن عن أعين الآخرين حتى لو كان بحجم رأس الدبوس؟ هل نذهب الى المقهى ؟ لا..لا، أحس وكأن العالم كله يجالسنا ويستمع لمناجاتنا، إذن دعينا نحلق ونحلم ونطير ونضحك ونبكي.
- الا تعلم بإن جناحي قد قصا منذ زمن بعيد، ولكن يمكنني ان أنفذ الى رأسك واتلاشى بين طيات مخك.
يأخذني بين ذراعيه القويتين ويرفعني عاليا وبين تذرعاتي كي لا يوقعني ارضا وبين زهوي بجسده القوي المتين الذي يشبه ارباب الاولمب، اشعر بتلك الثمالة من غير خمرة وبتلك الغفوة بلا نوم.
- لاتخافي، لاتخافي، كم تخافين!
ويطبق شفتيه على ابتسامتي وكانه يريد ان يصنع منها قالبا بشفتيه.
كانت تلك الأشواق المحمومة المحبوسة تتدفق في دقائق، في ثوان؛ كثورة من ثورات تلك البراكين الخرافية، حتى نهدأ لدقائق و نحس بتجمع الحمم المتدفقة كالرغبة المجنونة في العناق والتقبيل. كنا مثل عطشان إندفع ملهوفا نحو الماء العذب ، ونهل منه بشغف وجنون من دون أن ينطفىء عطشه أو تخف حموته.
- دع أشواقنا تتسرب ببطئ كي نرتوي.
- هل تقدرين؟
- فلنجرب!
لكنه لم يبرح المبنى أبدا. كيف السبيل الى الدخول اليه؟
أودعت أفكاري و كل شيء عند الباب, ودخلت عارية، وأنا أعلم بأنه لا سبيل للخروج. تساءلت من اين للسكان هذه السعادة؟ فالكل مبتسم لكنها ابتسامة مرسومة. وجدت خلف نظراتهم الجامدة عيونا من زجاج، وجدتهم لونا واحدا يتحركون بلا أهداف. إقتادني أحدهم الى سيدهم الذي انفرد بحجرة عالية الجدران وراح ينظم لهم امورهم في حياة لا وجود للظلم او القسر او الألم في قاموسها.
كان كل شيء منظما الى الحد الذي سلب الصدفة دورها. نظر لي نظرة متفحص أنستني من جئت من اجله.
- ما اسمكِ؟
- كان لي أسم نسيته، إذ كان يدعوني "الحبيبة الغالية " .
إقترب مني أكثر فاكثر، وتسللت يداه كالسحالي تبحث عن جسدي فلم تجد سوى أعشابا ذابلة، أحس بجفافها، وأراد ان يرويها قسراً.
طلبت الخلاص، اندفعت صوب الباب، اريد أن أتنفس فلم أستطع، وكان الجميع في أردية بيض.
- لاتخافي! سنريحك من آلامك كلها.
- ماذا تريد مني؟
- لاشيء سنجعل من راسك الجميل هذا جهاز تلقٍ فقط، وفي ذلك راحتك وخلاصك من القلق، فهذا المبنى يصدر أوامر قاطعة، واضحة تتسم بالحب والجمال، ولامجال لرفضها. أليست الحياة جميلة هنا؟
بدأ مفعول المخدر يسري في جسدي، تلفت من حولي بحثا عن ذاك الذي جئت أنشده، فلاح لي وجهه عبر النافذة من خارج المبنى وهو يلوح لي مودعا.