رسالتان مخبأتان في مفكرة غسان كنفاني
غسان :
لا أدري.. لا أدري لماذا مسكت القلم ؟ كل ما أعرفه إنني لم أتمكن النوم ، تقلبت في سريري ساعتين دون جدوى ..أعتمتُ حجرتي حتى من صوت القمر الهاديء دون فائدة ...
فكان يجب أن انهض من سريري ليحفر قلمي ما يحفر ...
وأنا أكتب ؛ كان دمعي يشتاق صد ر قلمي العريض .. .!!!
كان يجتاحني الحنين للصراخ والجري في الليالي تحت وابل الأمطار ... ليت المطر الآن يغسلني وملابسي ... ليتني أنزلق في الوحل الذي يطل عليه باب الدار ... فحرام ..حرام ، بل سخرية ليس لها حدود أو منطق أن أغوص داخليا في أوحال هزيمتي ،وتبقى ثيابي مشرقة أتصرف معها بتهذيب وأدب جمين .
وأنا أكتب .. تحاصرني خيالات يومي وأحداثه الشائكة وحوادث الأمس والشهر الماضي والعام القادم …
إن ما يحاصرني هو الحرمان ... نعم حددت الكلمة التي أبحث عنها والتي تدمي جوارحي .. لكن ؛الحرمان من أي شيء ؟ أي حرمان ذلك الذي قد يوصلني الى حد الحقد العنيف تجاه البشرية !
كل البشرية مجرمة بحقي ... كلها شربت نخب السعادة يوم دُفِنَتْ بلادي ... كلها رقصت يوم هزمت وذبحت قبل عقود من الزمان !.
حرمان يلغي يقيني ولايزرع إلا أسئلة تلو أسئلة : هل مازال الطفل طفلا ؟ والحب حبا والحزن حزنا ؟ هل مازال الفرح فرحا والجرح جرحا ؟ هل مازالت الأرض أرضا والهواء هواء ؟ إلى أن أصل لسؤال .. .. هل مازلت أنا ... أنا ؟!!
أجبني يا غسان ... هل مازال العراق عراقا والنّخل نخلا ؟ ماذا ترى في ملكوتك العلوي ؟ هل تراني أقلب آثارك أثرا وراء اثر وكل قصة اقرأها مرتين ،وكل مقطع يغرس في القلب سكينا، ويقذف إلى بركة أحزاني دمعتين ..
ستسخر مني طويلا ،بل ستبكي من بلاهتي حين اعترف بحقيقة بعيدة عن الوطنية والشعارات اللافتة للنظر ،وستجلدني هراوات المثقفين حين أصرح بأنني أحيانا أغار من طفل بلادي .. فهناك من يرى مأساته وحرمانه ،وليس هناك من يرى حرماني !!!!
ستسأل وما نوع حرمانك ؟؟
أبسط ردودي ياغسان انني للآن لاأملك إجابة لمعنى إسمي !!
غسان ...
أشكرك ياغسان ،فاليوم وجدت أول حروف إسمي .. لكنّني للآن لم أتعلم كيفية رسمه بالشكل المضبوط .. "أعلم أنّك ستساعدني " تعلمت اليوم حرفي الأول المنقوش بخط جميل فوق بطاقة هويتي ،إنّه
عراقية الحب والجراح )
فبعد مرور شهر اتقنت رسم حرفي الأول .. شكرا ، بأزميلك علمتني أن أنقشه فوق الحجر، فوق الصخر ، عند جذوع النّخيل ، على أسيجة الشوارع والمتنزهات وفي دفاتر الشعر ...
أن أكون عراقية الحب .. معناه : أن حبي يحمل نقاءا طفوليا عجيبا .. وصدقا غريبا .. معناه أنني مهترئة القلب اخلاصا له ...
أمّا أن اكون عراقية الجراح فانظر ياغسان ! أنظر .. انني احبس وطني في عيني دمعة !أخاف والله لو بكيت ان يتدحرج وطني !!فهل احسست بعذابي ؟
احبس وطني في حنجرتي صرخة !أخاف والله لو صرخت ان يتهاوى وطني على جرحي !! فهل احسست بعذابي ؟"
********
كوكب 2001