آخر 10 مشاركات
العلة في العروض(علل الزيادة) (الكاتـب : - )           »          الزحاف الجاري مجرى العلة في القصيدة (الكاتـب : - )           »          اللَّهمَّ صلِّ على سَيِّدِنا محمد (الكاتـب : - آخر مشاركة : - )           »          سجل دخولك بنطق الشهادتين (الكاتـب : - آخر مشاركة : - )           »          دمـوعٌ خـرســــــــــاء .. !!!!! (الكاتـب : - )           »          محبك في ضيق..وعفوك اوسع ... (الكاتـب : - )           »          الزحاف المركب ( المزدوج) في العروض (الكاتـب : - )           »          الزحاف المفرد في العروض (الكاتـب : - )           »          أسماء القافية باعتبار حركات ما بين ساكنيها (الكاتـب : - )           »          في السماء بلا حدود (الكاتـب : - )



العودة   منتديات نبع العواطف الأدبية > نبع الأدب العربي والفكر النقدي > السرد > القصة القصيرة , الرواية,المسرحية .الحكاية

الملاحظات

الإهداءات
عواطف عبداللطيف من أهلا وسهلا : بالشاعر خالد صبر سالم على ضفاف النبع يامرحبا منوبية كامل الغضباني من من عمق القلب : سنسجّل عودة الشاعر الكبير خالد صبر سالم الى منتدانا ************فمرحبا بالغائبين العائدين الذين نفتقدهم هنا في نبع المحبّة والوفاء وتحية لشاعرنا على تلبية الدّعوة

إضافة رد
 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
 
قديم 08-26-2011, 01:36 AM   رقم المشاركة : 1
أديب





  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة :سيف الدين الشرقاوي غير متواجد حالياً
اخر مواضيعي
Oo5o.com (4) جدّي الحاج أحمد أبو زيّان ـ قصة قصيرة ـ

جدّي الحاج أحمد أبو زيّان


قصة قصيرة





1

دهم الموت دارنا ذلك الشتاء ... عندما كانت الغيوم تغطّي السماء . لم يكن هناك أحد في المكان... وقد لاذ الناس لدورهم إتّقاء البرد والزمهرير القارس...

كانت أمي تُصلّي عندما جاءنا زائر على غير ميعاد .. في ذلك اليوم .. كان شاحب الوجه وقد علاه الوجوم .. وكأنّ على رأسه الطير... جاء وهو مضطرب للغاية .. ألقى قنبلته بيننا ثم اختفى في لمح البصر.

ـ لقد توفي الحاج أحمد أبو زيّان...

بدا الارتباك على وجه أميّ وهي تغالب دمعة حزن تكاد أن تفرّ من محجريها...أتّمّت صلاتها في خشوع تخيّلتها في تلك اللحظات العاصفة كشمعة تحترق في صمت وحزن وسكون.

أنهت أمي الصلاة وقد اغرورقت عيناها بفيض من الدموع المحتقنة .. هرولت نحو جلبابها وخمارها وفي آلية انطلقت صوب الباب وهي تغالب الدموع والأحزان ... تسمّرت بمكاني للحظات كنت وحدي ـ وقتذاك ـ يلٌفّني الصمت وتعتصرني الذكريات .. وأنا أصغي إلى نداء خفيّ مجهول .. كان قلبي يعتصر كمدا ودموعي تتدحرج من محجري فتظنيني..

ـ لقد مات جدّي الحاج أحمد أبو زيّان.........

تحرّكت ببطئ وعفويّة.. وسرعان ما انطلقت أعدو لألحق أمّي .. كانت مكلومة.. فقد فقدت " الوتد" وطالما كانت ترنو لأن تكون إلى جواره وهو يغرغر في حشرجاته الأخيرة... بعد رحلة مرض طويلة وشاقة.

لا أدري كيف قطعنا أنا وأمي تلك المسافات والمفازات الشاسعة التي تفصل بين دارنا وبيت جدّي....

كنّا نخترق الطرقات واجمِيْن في غير مبالاة أو اكتراث لقد كان هوْل الموت قويّا له دوي ّ في عمق النفس وقد بدا الكمد جليّا على المحيّا الشاحب .

كنت أسمع أمي وهي تتمتم "تمتماتها" الخفيظة وتدعو له بالرحمة وهي ضارعة تواصل هرولتها و تواصل الدعوات الحارة فيختلط البكاء الأخرس بدفق الدمع الساخن بينما يصلني صدى أنينها المكتوم المنبعث من العمق.. يتردد صداه المكلوم في حسرة مهيضة الجناح وألم كالغصص الحرار...

كنت أهرول لأدرك أمي وقد أكلها الحزن ولاكتها أفواه المرارة السوداء

ـ" أي ّ قوة جبّارة تلك التي بين جوانحها .. ألهمتها الصبر والعزاء رغم المرض الذي ينخر جسدها العليل "

كانت شمعة تُريقٌ دموع احتراقها في صمت وحزن وصبر وأناة.

كنت على أمل يراودني في الهروب من مخيالي .. من تلك الخيالات المخيفة وهي تنهبني نهبا فلا أستطيع ان أرتّب أفكاري.. إنني بحاجة لاستعادة تفاصيل ماحدث.

أن أحاول احتواء ارتباكي وحيرتي وأن أمتصّ حزني الصامت

ـ لقد مات جدّي ...... رحمه الله...

وددت أن أصرخ في الدنيا , وأن أرفع عقيرتي عاليا وأصيح...

ـ مات ... مـــــــــــــــــــــــــات

جـــــــدّي ....

" إنني في حاجة للحظة جنون وانعتاق"

كانت المسافة ـ الفاصلة بيني وبين أمي ودار جدي ـ كبيرة ...

وأخيرا لمحتها من الافق وهي تدخل الدار وهي ذاهلة تغالب الحزن والكمد... أطلقت سيقاني للريح كي أدركها ...

ـ لقد مات جدي ... رحمه الله

2

وقفت أمام جسد جدّي، كان ممدّدا في الفراش ذاهلا كمن لا حقت عيناه طائر الردى وهو يحلق إلى أن يختفي في غمار السماء . كم هاضت تلك العينان الهائمتان جوانحي.. ذاهلا كنت أحدّق في الجسد

ـ يا دموعي أهلّي وسيلي ... رحل جدّي

ذلك الوتد الذي قامت عليه الخيمة.. وارتبطت به حياتي السالفة ..

إنه أصل الشجرة ونحن أغصانها وفروعها...

ذكرت ُ بسمته الصافية وانشراح صدره وهو يرتّل آيات القرآن .. فتترقرق من شفتيه كالعسل غضة طرية متقدفة ندية ...

كانت أمي ـ لحظتها ـ تمسك يده الباردة المتكلّسة .. في هاته الحظات الحرجة ..تسحّ دموعها في صمت وتتلو آيات من القرآن...

" يس .. والقرآن الحكيم ... إنّك لمن المرسلين..."

تواصل التلاوة في حزن ووقار .. أمّا أنا فقد وقفت جامدا متخشّبا أمام الحائط حتى صرت ملتصقا به... لم أبكي لم أصمت لم اتحرك وقد تهت في تفاصيل اليوم الغدافي الأسود.

استسلمت لمشهد الموت الرهيب ، كانت عينا جدّي شاخصتان للسماء

غمغمت وأنا أغرق في الصمت.

ـ مـــــــــــــــــاتْ

كان مخيالي وقتها يملأ الغرفة بالنور وإذا بالمكان يتحوّل في مخيّلتي إلى فضاء مزروع بالورد واالرياحين وجنائن من عرائش الياسمين.

أحدّق في الجثة الهامدة وهي أمامي " كالخشبة " وقد رفرفت الروح في معراجها إلى السماء .. تتغلغل فيه كما يتغلغل الطائر المحلّق في غمار السحب.

أشرد قليلا وناظري لا يزال عالقا اتجاه السراب .

أعجب ما أعجب منه ـ لحظتها ـ أمر نفسي الهادئة .. إنني لا أّذرف دموع العين.. بكاء القلب الدامي وهو يقطر بالدم.. هو بكاء الألم الصامت... أورثني هذا المشهد الجنائزي همّا على همّ.. كاد فؤادي أن يكف عن الخفقان

ـ آ وّأأأأه للموت رائحة في هذا المكان

تنتشر الرائحة كدبق الدم وسرعان ما تتبدّد بريح طيّبة وروْح وريحان..

3

لقد تحرّكت السنين ودارت الأفلاك والنجوم .. وجدّي لم يتحرّك تغيّرت المبادئ والأزمان والبشر تغيّروا والطقس تغيّر لكن جدي ظل كما هو لم يتغير وجهه المضيء الوقور كأنه صفحة وجه القمر . . ولحيته البيضاء التي تزيده هيبة وتصبغ عليه هالة الاحترام ,, لم تتغير وجلبابه الابيض النقي و" بُلغته" الصفراء وعمامته البيضاء المميزة ومشيته الهادئة الرزينة وعصاه العتيقة السوداء .. كلها ذكريات عن رجل مضى ها هو الآن .... جثة هامدة .. لا حول لها ولا قوّة .

ـ إنه جدي الحاج أحمد أبو زيّان كما عرفته منذ نعومة أظافري .. هو نفسه جدي الميـت الآن ...

أحسست بانقباض شديد إنني أعيش لحظات قاسية في هذا الحقل الرهيب .. حقل الموت....

طرق الباب الفقيه الميلود تقدّمت نحوه في حزن أخرس.

أطرق في صمت وقال بحزن

ـ أريد من يساعدني في تغسيل الميّت ...

تهيّب الجميع هذا الأمر الجلل أقشعرت جلودهم فتقهقروا .. أصبحت وحيدا .. حدّق في وجهي ثم قال

ـ ممكن ... أن تساعدني

لذت لصمت القبور...

لا ضير أن أشرب من الماء الآسن ، لا بأس ان آكل اللقمة المعفّرة بالتراب ، لكنّني لا أقوى على رؤية جدي ممدّدا أمام " الغسّال" وأكون أنا من يصبّ الماء على جسده ويكفّنه..

يالها من لحظات ثقيلة جدّااا

غمغمت دون تفكير وقد غامت عيناي بالدموع

ـ لا ضير......

" لا بدّ لي من إدراك معنى ... أن يموت الإنسان ويرحل ..."

سرعان ما لملمت تلابيب نفسي ، ارتفع صوت من داخلي لماذا لم تقل " لا لا لا " ولكنه صوت مكتوم متكوم في أغواري ككيس من تراب.

قد تكون " لا لا لا" ممكنة في كل الأحوال .. ولكنّها لن تكون مبررا أبدا داخل الغرفة الفارغة من كل أثاث وجدت جدي ممددا وماء الغسل قد أصبح جاهزا والمٌغسّل ـ الفقيه الميلود ـ مستعدّا. وسرعان ما انهمكنا سويّة في تغسيل جدي وتكفينه... كنت أشم ريحه الطيّبة أو هكذا كان يخيّل لي، كانت لحظات مصيرية في حياتي.

هاجسٌ ينتابني بين الحين والحين , عتاب ولوم خفي

ـ لماذا لم تتقهقر وتقول " لا"

تفصد جبيني بحبّات من العرق حاولت الفرار من هواجسي ..

لن أنصت لصوت نفسي مهما علا الصخب والضجيج من حولي .. أو مهما اشتدّ بي الوهن والضعف...

سمعت الفقيه الميلود يقول "محمدلا"

ـ انتهينا ... فرغنا بحمد الله رحمه الله

أرسل زفرة حادة من أعماقه ، أحسست بلوعتها

ـ كان رحمه الله رجلا فاضلا

هكذا قال ثم اتجه نحو الباب واختفى بين الجموع... بينما تقاطر أهل الدار لإلقاء النظرة الأخيرة على الميت.

لمحت في وجه امي تباشير الرضا ربتت على كتفي وقالت بحنو وعيناها ملأتا حزنا...

ـ بورك فيك يا " ولدي"

ـ " يموت جدي .. وأغسله وأكفنه وأنفض غبار قبره من يديّ.

وفي نفسي ألم دفين وبعيني دمعة وفي قلبي حسرة.

انسللت إلى الخارج .. وجلست في انتظار الجنازة..

كنت ـ دائما ـ أعرف طريقي إلى بيت جدي مدفوعا بقوة غامضة لا تقاوم .. لا فكاك منها مهما ابتعدت سرعان ما أعود

الآن ... لحظة حزن جارفة وكمد قاتل وتيه متواصل .

تذكرت أن اليوم هو يوم " الجمعة " احتشد الناس في الزقاق.. كانوا يتزاحمون أمام الدار وسرعان ما انطلق الموكب الجنائزي الصامت

إلى مسجد النور المحمدي .

الحشود الغفيرة وكأنّ على رؤوسهم الطير، رفرف طائر الحزن فوق رأسي .. فسكنت ملابسي لائذا للصمت مستسلما للشرود.

4

علت في السماء صرخات ملتاعة ذات أسى ولوعة جارحة ، أزعجني بعمق ذلك الصراخ ، تألّمت في صمت .. " هل كان يرضي جدي أن تكون نائحة تشدّ من شعرها في جنازته" .

إنني أحتقر الصوت العالي وأنفر من الصراخ بطبعي حتى لو كان صوتي .. ـ إن صرخت وارتفعت عقيرتي ـ.. شعرت بعتاب وتقريع داخلي مرير. رأيت أحدهم يسحب المرأة النائحة خارج البيت وسرعان ما ساد السكون ... بينما تواصل البكاء المكلوم المكتوم في حزن جليل صامت.

ها أنذا أسرح في ملكوت من الذكريات جدي الحاج أحمد أبو زيان وهو يقف شامخا كالمئذنة ويمشي الهوينا بوقار .. أتسلل إليه خلسة كنسمة هواء صافية في يوم حر أوقر ... أقبل يديه البيضاء اللينة ، يبش في وجهي فتشرق من صفحة وجهه ابتسامته الجميلة .. ثم أمضي معه في الطريق أرهف السمع له وهو يتلو آيات القرآن....

كم كانت قراءته شجية .. إنها سياحته اليومية.

وعندما ندنو من مشارف " الدرب" وألمح بيتنا على بعد خطوات أنطلق وأنا أعدو لأبشّر أمي بقدومنا ....

ـ "جاء جدي ...فتهللي وأجملي"

كنا نجلس عصر كل جمعة متحلقين حوله .. كان وتدا ويدا....

نجلس صامتين كأن على رؤوسنا الطير نرهف السمع لحكاياته وقصته في المعتقل .. عندما تصدى للقائد الفرنسي وقد أطاح به أرضا بضربة قاضية ... يومها كان السجن في حسي مرتبطا بالبطولة والنضال والمقاومة وقد كان عندما احتواني بين أحضانه وأشواكه .

بينما جدي يواصل الحكاية كان يتناهى لسمعه شيء من أصوات الأغاني منبعثة من " الرائي " او المذياع . أرى الانقباض باد على وجهه .

ويزجرنا زجرة واحدة

ـ أغلقوا... فم الشيطان

ثم تختفي الأصوات في لمح البصر... الشيطان في حس جدي حينها هو ذلك المذياع او مخيال الرّائي . كم كان جدي يمقت ما يبث فيه من لهو وعبث... بينما يحثنا على سماع القرآن بلا كلل أو سأم.

وعندما يعم الصمت أرجاء الدار ينطلق في حكاياته وسرد تجاربه ونحن متحلقين حول " براد الشاي " لساعات طويلة...

كان يحلو له مرات عديدة أن يداعبنا دعاباته الجميلة..

كم كان جدي رائعا وكم كانت تلذ لأذني سماع قصصه ورحلة كفاحه وإيمانه العميق... أتخيّلها أمامي في شريط متواصل من الذكريات.

" توقفت قليلا عند حرارة الذكرى التي ثارت في الصدر ألتفت لأستوثق من المكان ... المقبرة ... أمامنا ... عما قريب نواري جدي ـ الحاج أحمد أبو زيّان ـ التراب... إنه مثواه الأخير

ـ سأنفض تراب قبره من يديّ."

تأوّهت وربما حاولت أن أصرخ صراخا داخليا ، لكنني احتبسته في صدري فاحترق... عندما ولجنا المقبرة في موكبنا الجنائزي المهيب ٍرأيت أسرابا من الطيور وهي تفزع من أعشاشها وتصرخ في السماء المتلبدة بالدخان

ـ" لكأنها تبكي جدي أو ترثيه".

زفرت في حرارة وأنا أتمتم بيني وبيني

ـ "قد ينتج أعظم شر من أعظم خير كما ينتج أعظم شر من أعظم خيرّ"

ثم اختفيت بين الجموع....

إنها لحظات فاصلة في هذا اليوم المشهود.....

5

كلمة " الموت " تعني النهاية .. نحن ننطقها بلا مبالاة ، الموت هكذا ببساطة، وربما نكتبها على الورق دون أن تثير فينا شيئا أو تحرّك في نفوسنا إحساسا بالألم والاحتراق والمضاعفات المرعبة والمدمرة.

ها أنذا أقف على أعتاب الموت... القبور في كل اتجاه تحيط بنا من كل مكان.. ليس الأمر هيّنا ..

إنها لحظات من التأمل الحقيقية .. تبدأ من هنا من المقابر وبين الحفائر...

" عندما يموت الإنسان ويترك أحلامه الجميلة التي لم تكتمل وتعلُّقهُ بتلابيب الأمل والرجاء ... ثم يودع ربيع عمره... أو خريف حياته، يودعهما بعيني ملهوف وكأنه يتوسل للبقاء..."

ـ " حينها ندرك حقيقة أن نخرّ صرعى وموتى..."

ما أقسى لحظة الموت والفراق.. عندما تواري في التراب من تحب وتتركه يثوي في مثواه الأخير ..." بحفرة" مجرد حفرة نائية لا حس فيها ولاخبر ....

وتتركه للنسيان لآلاف السنين نائما نومه السرمدي الطويل ينام وهو عاجز في قبره ... بينما الدنيا من حوله في هزيجها ومريجها وصخبها وضجيجها واضطرامها...."

جدي تحت التراب ... يرقد عاجزا كقطعة خشب متعفن

ـ أليس الموت رهيبا....

وهو مصيري بعد المسير..

ما أوحشه من مصير وما أقصره من مسير

حركت جذور ذاكرتي فانطفئت حرارة نفسي

ـ ما أصعب الكلام

انسحبت خارج المقبرة والألم يعتصرني والكمد يأخد بمجامع قلبي وفؤادي.. كنت أمشي في فتور وألتفت مرات إلى الوراء لأودع القبر وما حوى .. وأودع أحزاني وتاريخي وأيامي الماضية وجذوري...

6


في المساء أحسست بشيء يغلي في صدري كما يغلي الماء في القمقم كان برأسي معركة دامية تضطرم فيها أفكار وتأملات عن الموت ومعنى أن نموت وأن نواري في التراب سوءة أخينا الإنسان...

غصت في فلسفة الحياة والموت والحرية والقيد...قادتني قدماي بعد رحلة مشي طويلة إلى المقبرة.. تجاوزت بوابتها وأنا غارق في شرودي، لا أدري أطال الوقت أم قصر وأنا أمام قبر جدّي.. أخدتني سنة من النوم بجنب الشاهد والصبّار وفي النوم طافت روحي في ملكوت فسيح رأيت جدي جالسا بلباسه الأبيض ووجهه المضيء فانبسطت أساريري... أفقت فجأة جلست مقرفصا وأنا قدّام القبر وقد اعتصمت بالصمت... أرهف السمع للأشجار والريح وهو يداعبها.. وللأرض والتراب، أحسست أن القبر مشهدٌ آخر من القبو والزنزانة التي التهمتني لسنوات طويلة كانت " المنفردة " قبري وكان السجان كفتنة القبر وعذابه المرير...

"انتفضت قائما وحديث عن " الفطرة " يراودني ، تلك الخامة الأصيلة للحياة الأولى ومصدر طاقتها الحيوية وعن النفس وما تحويه بين جوانحها من متناقضات ونوازع شتى وبما يصدر عنها من تجارب وآلام...."

طيلة المسافة الفاصلة ما بين المقبرة والطريق السيار كنت أحلّق مع لحظات من ذكرى الطفولة عندما كانت الأفعال منطبقة مع نداء الفطرة.

غمغمت في استسلام عميق" على الإنسان أن يكون في حالة تمحيص دائمة لأفعاله".. لقد عشت أحمل في جسدي بصمات القهر تعكر صفوي جهامة وجه الجلاد الذي يطاردني في أحلام اليقظة وفي كوابيس الليل وألمح من وراء النسيج الرقيق الذي يلفّني كغشاء الشرنقةالحريرية بصيص أمل فأندفع كالفراشة محلّقا في الفضاء الفسيح معانقا للحياة..لأمكث تحت ظلال الشجرة الباسقة الوارفة.

القبر والموت والقيد والقبو والحرية والسجن والعتمة والسكون والأحزان والآلام والأوجاع ...موت جدي ذلك اليوم ذكرني بلحظة مغادرتي للسجن .. وأنا أبتسم ساخرا من الجلاد

ـ لم يكن بميسورهم رغم أدوات القهر مسخ فطرتي ...

هناك داخل العتمة تصبح كافة القوانين الأرضية تبريرا للبطش والقتل في أبشع صورة من صوره...

ألتفت نحو المقابر ...

ـ أوّااااه ... خرجت من قبري من زنزانة قهري

أما أنتم فمتى تخرجون من الأجداث سراعا

أحسست بالموتى كلهم وكأنهم ينتفضون من أكفانهم البيضاء ويرددون في صوت واحد كان له صدى تردد كالصعق والبرق في السماء الواسعة

ـ "من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز...."

لمحت جدي من بينهم وهو يتقدم صوبي ويردد بقوة

ـ ما مصيرك بعد طول مسير

أفقت من شرودي وأنا أردد " مصيري بعد مسيري إنه القبر القبو الأبدي السرمدي ..."

استنشقت كمية من الهواء ملأت بها رأتي.. وأنا أمشي انسكبت قطرات من السماء وبدا البرد أشد مما كان.

كنت لحظتها أسمع لقطرات المطر طرقعة خفيفة شعرت أن الحذاء يكاد يخنق قدمي وباختناق يعتريني من رأسي لأخمص قدمي" أكاد أموت "

رغم إحساسي بالدفء ذلك الإحساس الذي افتقدته من زمن بعيد وأنا في القبو المقيت...

مات جدي ...

هكذا غمغمت وأرسلت زفراتي الحرّى...

في شرودي واصلت المسير تحت وقع زخات المطر ....







آخر تعديل سولاف هلال يوم 08-26-2011 في 10:01 PM.
  رد مع اقتباس
قديم 08-26-2011, 02:45 AM   رقم المشاركة : 2
عضو مجلس إدارة النبع
 
الصورة الرمزية شاكر السلمان





  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة :شاكر السلمان غير متواجد حالياً
اخر مواضيعي
قـائـمـة الأوسـمـة
افتراضي رد: جدّي الحاج أحمد أبو زيّان ـ قصة قصيرة ـ

رحمه الله

والله قصة مؤثرة

بوركت












التوقيع

[SIGPIC][/SIGPIC]

  رد مع اقتباس
قديم 08-27-2011, 02:31 AM   رقم المشاركة : 3
أديب





  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة :سيف الدين الشرقاوي غير متواجد حالياً
اخر مواضيعي
افتراضي رد: جدّي الحاج أحمد أبو زيّان ـ قصة قصيرة ـ

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شاكر السلمان نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
  
رحمه الله

والله قصة مؤثرة

بوركت

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة






  رد مع اقتباس
قديم 08-27-2011, 03:33 AM   رقم المشاركة : 4
أديبة وقاصة
 
الصورة الرمزية سولاف هلال





  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة :سولاف هلال غير متواجد حالياً
اخر مواضيعي
قـائـمـة الأوسـمـة
افتراضي رد: جدّي الحاج أحمد أبو زيّان ـ قصة قصيرة ـ

الأديب القدير سيف الدين الشرقاوي
أسعد الله أيامك
سأرد بتلقائية شديدة على هذا النص الذي يحرك الساكن في النفس
هنالك فرق كبير بين القبو والقبر
في القبو تلصق بك التهم باطلا ويقوم الجلاد بتنفيذ الأوامر بلا رحمة
أما في القبر فيكون المرء تحت رحمة الغفور الرحيم
في القبو تتطلع إلى الحرية والتحرر من سطوة الجلاد
أما الموت فهو الحرية التي ننشدها للتخلص من سطوة الجسد وآلامه التي لا تطاق
الموت حقيقة مطلقة ينبغي تقبلها برحابة صدر لكننا ننساق لمشاعرنا حين يخطف منا الموت عزيزا و سرعان ما نعود إلى صوابنا حين نتجاوز الصدمة ونتقبل المصير الذي سنؤؤل إليه جميعا يوما ما
لا أعرف هل هناك بعد الموت راحة أم لا لكنني رأيت أشخاصا يتمنون الموت للتخلص من ثقل الحياة و قسوة الألم وعشت طفولتي بالقرب من أشخاص يسجنون ويعذبون من أجل الحرية والآن أرى شعوبا بأكملها تناضل من أجل الحرية
شكرا لقلمك الحر
شكرا لابداعك الراقي
دمت بخير وحرية
( يثبت )













التوقيع

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
  رد مع اقتباس
قديم 08-27-2011, 05:02 AM   رقم المشاركة : 5
أديب





  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة :سيف الدين الشرقاوي غير متواجد حالياً
اخر مواضيعي
افتراضي رد: جدّي الحاج أحمد أبو زيّان ـ قصة قصيرة ـ

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سولاف هلال نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
   الأديب القدير سيف الدين الشرقاوي
أسعد الله أيامك
سأرد بتلقائية شديدة على هذا النص الذي يحرك الساكن في النفس
هنالك فرق كبير بين القبو والقبر
في القبو تلصق بك التهم باطلا ويقوم الجلاد بتنفيذ الأوامر بلا رحمة
أما في القبر فيكون المرء تحت رحمة الغفور الرحيم
في القبو تتطلع إلى الحرية والتحرر من سطوة الجلاد
أما الموت فهو الحرية التي ننشدها للتخلص من سطوة الجسد وآلامه التي لا تطاق
الموت حقيقة مطلقة ينبغي تقبلها برحابة صدر لكننا ننساق لمشاعرنا حين يخطف منا الموت عزيزا و سرعان ما نعود إلى صوابنا حين نتجاوز الصدمة ونتقبل المصير الذي سنؤؤل إليه جميعا يوما ما
لا أعرف هل هناك بعد الموت راحة أم لا لكنني رأيت أشخاصا يتمنون الموت للتخلص من ثقل الحياة و قسوة الألم وعشت طفولتي بالقرب من أشخاص يسجنون ويعذبون من أجل الحرية والآن أرى شعوبا بأكملها تناضل من أجل الحرية
شكرا لقلمك الحر
شكرا لابداعك الراقي
دمت بخير وحرية
( يثبت )

ـــــــــــــــــــــــ

الاديبة الراقية سولاف هلال

تحياتي

استغرقت لحظات في التأمل حول القبر والقبو
صدقت في تفاصيل الفروق ما بين عامة وعتمة

غير انني كتبت النص في العتمة هناك كنت استشعر ان القبو كالقبر فيي الضيق في العذاب في الالم في الانقطاع عن الاسرة في الالم الخفي لكني لم اكن ارمي لعقد مفارنة بينهما في غير معاني السجن والحجر والالم.....
ربما تكون المشاعر وتفاصيلها اخذت مساحة من النص لكن العتمة افرزت ما كتبت بكل تلقائية

لا يزال المربع الصامت يسككنا

مودتي

شكرااا

للتثبيت والملاحظات

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة






  رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
رؤية نقدية /حكايات نبيل مصيلحي / بقلم أحمد محمد عبده حسن حجازى قراءات ,إضاءات,ودراسات نقدية 5 05-31-2016 08:38 AM
الى روح زميلي الحاج الاديب صالح شبانة / الحاج لطفي الياسيني لطفي الياسـيني الشعر العمودي 2 07-18-2011 12:31 AM
الى روح صديقي الشاعر د. عمر حيدر الحاج / الحاج لطفي الياسيني لطفي الياسـيني الشعر العمودي 0 07-13-2011 11:27 PM
الى روح اخي محمد ابو شلباية /الحاج لطفي الياسيني لطفي الياسـيني الشعر العمودي 0 07-06-2011 04:23 AM
المكتبات الشخصية" لمؤلفته نها محمد أحمد عثمان د.سناء الشعلان قراءات ,إضاءات,ودراسات نقدية 1 02-03-2011 09:12 AM


الساعة الآن 09:40 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.9 Beta 3
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.
:: توب لاين لخدمات المواقع ::