قَالَ الله تَعَالَى: ((إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ)) (الحجرات: 10) ومقتضى هذه الأخوة: أن يشعر المسلم بإخوانه، ويتأثَّر لحالهم، فيسره ما ينزل بهم من خير، ويسيئه ما يصيبهم من بلاء وشر، ويسعى في رفع الأذى وكشف الضر عنهم، ولا يفرح بمصائبهم، فذلك من صفات بطانة السوء من المنافقين، الذين قال الله عنهم: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)) (آل عمران: 118-120)، وقال تعالى: ((إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ)) (التوبة: 50)
والشماتة: هي السرور بما يصيب الغير من المصائب في الدين والدنيا، وَإِظْهَارُها من آثار الغضب بالباطل، وهي محرمة منهي عنها، لما تتركه من تفكك المجتمع، وتفرق القلوب، ولما تورثه من العداوات والبغضاء، ولما تؤدي إليه من السعي في الإضرار بالغير، أو على الأقل الامتناع من دفع الضر عنه، وهذا ينبيء عن لؤم وسوء طبع، ولذلك قيل: «الشماتة بالمنكوب لؤم». ومن ثم حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الخلق الرديء، فقد أخرج الترمذي وحسَّنه عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ لأَخِيكَ فَيَرْحَمُهُ اللهُ وَيَبْتَلِيكَ»( ).
كما أخرج الترمذي عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ». قَالَ أَحْمَدُ: مِنْ ذَنْبٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ( ). وَقَالَ الْحَسَنُ: «كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهُ مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ قَدْ تَابَ إِلَى اللهِ مِنْهُ ابْتَلَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ»( ) أي أنه يُجَازَى بِسَلْبِ التَّوْفِيقِ حَتَّى يَرْتَكِبَ مَا عَيَّرَ أَخَاهُ بِهِ وَذَاكَ إذَا صَحِبَهُ إعْجَابُهُ بِنَفْسِهِ بِسَلَامَتِهِ مِمَّا عَيَّرَ بِهِ أَخَاهُ.
ولما ركب ابن سيرين الدَّيْن وحُبِس به قال: «إني أعرف الذنب الذي أصابني هذا عيَّرت رجلاً منذ أربعين سنة فقلت له: يا مفلس»( ).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من شماتة العدو به، ويأمر بذلك، فقد أخرج البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ - وفي رواية قَالَ: تَعَوَّذُوا بِاللهِ - مِنْ جَهْدِ الْبَلاَءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ»( ).
وأخرج الحاكم عن ابن مسعود رضى الله عنه ، أنه صلى الله عليه وسلمكان يدعو: «الَّلهُمَّ احْفَظْنِي بِالْإِسْلَامِ قَائِماً، وَاحْفَظْنِي بِالْإِسْلَامِ قَاعِداً، وَاحْفَظْنِي بِالْإِسْلَامِ رَاقِداً، وَلَا تُشْمِتْ بِي عَدُوّاً حَاسِداً...»( ).
وذلك لأن الشماتة من أشد الأمور تأثيرا في نفس الحر الكريم، وهذا سيدنا هارون يقول لسيدنا موسى عليهما السلام ((فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) ويستجيب موسى لهذا الرجاء ((قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)) (الأعراف: 150-151) ليرضي أخاه، ويُظْهِرَ لأهل الشماتة رضاه عنه فلا يتمّ لهم شماتتهم.
ولم يزل الحكماء في كل عصر يتعوذون من شماتة المبغضين والأعداء، قال لقمان: نقلت الصخر، وحملت الحديد، فلم أر شيئاً أثقل من الدين، وأكلت الطيبات، وعانقت الحسان، فلم أر ألذ من العافية. ويعلق الزمخشري: «وأنا أقول: لو مسح القفار، ونزح البحار، وأحصى القطار، لوجدها أهون من شماتة الأعداء، خاصة إذا كانوا مساهمين في نسب، أو مجاورين في بلد»( ).
كل المصائب قد تمر على الفتى فتهون غير شماتة الحساد
إن المصائب تنقــضي أيامها إخاءهم وشماتة الأعداء بالمرصاد
وانظر ما أدت إليه الشماتة في نفس امرأة العزيز حين شمتت بها النسوة وقلن: ((امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)) ولأن قولهن لم يكن على وجه النصيحة، والنهي عن المنكر، ولكن كان على وجه الشماتة والتعيير، فإنها عدَّتْه مكرا، وقابلته بمكر آخر ((فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ))، ثم عادت هي تشمت بهن: ((قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ)) (يوسف: 30-32).
بل طلق الحسن بن علي عليه السلام امرأتَه لِما ظن أنه إظهارٌ منها للشماتة باستشهاد أبيه، مع أن المرأة لم تقصد ذلك، فقد أخرج الطبراني عَنْ سُوَيْدِ بن غَفَلَةَ، قَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ بنتُ خَلِيفَةَ الْخَثْعَمِيَّةُ عِنْدَ الْحَسَنِ بن عَلِيٍّ رضى الله عنه ، فَلَمَّا أُصِيبَ عَلِيٌّ رضى الله عنه وَبُويِعَ لِلْحَسَنِ رضى الله عنه بِالْخِلافَةِ، دَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: لِتُهْنِكَ الْخِلافَةُ، فَقَالَ لَهَا: أَتُظْهِرِينَ الشَّمَاتَةَ بِقَتْلِ عَلِيٍّ؟ انْطَلِقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلاثًا، فَتَقَنَّعَتْ بِسَاجٍ لَهَا، وَجَلَسَتْ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، وَقَالَتْ: أَمَا وَاللهِ مَا أَرَدْتُ مَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ، فَأَقامَتْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا... الحديث( ).
ومن النماذج النبيلة في ترك الشماتة: مؤمن آل ياسين الذي نصح لقومه حيا وميتا فإنه لما استشهد ودخل الجنة اشتغل عن الشماتة بقومه بالدعاء لهم وتمني هدايتهم ((قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)) (يس: 26-27).
ومن النماذج النبيلة أيضا: الإمام أحمد بن حنبل، بعد أن أعزه الله ونجا من فتنة خلق القرآن، ودارت الدائرة على الذين كانوا يسعون في إيذائه كان يأتي إلى الإمام أحمد من يحمل إليه تلك الأنباء، فيكرم نفسه أن تنزل إلى مستوى الشماتة الرخيص، بل كان الخليفة نفسه يرسل إليه كأنه يستفتيه فيما يرى من مصير أموال خصومه، فكان يسكت ولا يجيب بشيء.
اللهم اجعل رزقنا رغدا، ولا تشمت بنا أحداً.
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د.عبدالرحيم البر
التوقيع
آخر تعديل عواطف عبداللطيف يوم 08-03-2011 في 04:00 PM.