أحاوِلُ خرقاً في الحياةِ فما أجرا = وآسَفُ أن أمضي ولم أبقِ لي ذكرا
ويُؤلمني فرطُ افتكاري بأنَّني = سأذهبُ لا نفعاً جلبتُ ولا ضُرّا
مضتْ حِججٌ عَشْرٌ ونفسي كأنها = من الغيظ سيلٌ سُدَّ في وجهه المجرى
خيَرْتُ بها ما لو تخلَّدتُ بعدَه = لمَا ازدَدْتُ عِلماً بالحياةِ ولا خُبرا
وأبصرتُ ما أهوى على مثلـهِ العمى = وأُسمعتُ ما أهوى على مثلـهِ الوَقْرا
وقد أبقتِ البلوى على الوجهِ طابَعاً = وخلَّفَتِ الشحناءُ في كبِدي نَغرا
تأمَّلْ إلى عيني تجدْ خَزَراً بها = ووجهي تُشاهِدْه عن الناس مُزورّا
ألم تَرَني من فرطِ شكٍّ ورِيبةٍ = أُري الناسَ، حتى صاحبي، نظراً شزرا
لبستُ لباسَ الثعلبيِّينَ مُكرَهاً = وغطيَّتُ نفساً إنَّما خُلقت نَسرا
ومسَّحتُ من ذيلِ الحَمامِ تملّقاً = وأنزلتُ من عليا مكانتهِ صقرا
وعُدتُ مليء الصَّدرِ حِقداً وقُرحةً = وعادت يدي من كلِّ ما أمَّلَتْ صِفْرا
أقولُ اضطراراً قد صبَرتُ على الأذى = على أنني لا أعرِفُ الحُرَّ مُضطرّا
وليس بحُرٍّ مَن إذا رامَ غايةً = تخوَّفَ أن ترمي به مَسلكاً وعْرا
وما أنتَ بالمُعطي التمرُّدِ حقَّه = إذا كنت تخشى أن تجوعَ وأن تَعرى
وهل غيرَ هذا ترتجي من مَواطنٍ = تُريد على أوضاعها ثورةً كبرى
مشى الدهرُ نحوي مستثيراً خطوبَه = كأني بعينِ الدهر قيصرُ أو كسرى
وقد كانَ يكفي واحدٌ من صروفهِ = لقد أسرفتْ إذ أقبلتْ زُمَراً تترى
مشى لي كعاداتِ المخانيثِ دارعاً = يُنازِل قِرْناً مُثخَناً حاسِراً صدراً
خليّاً من الأعوانِ لا ذُخرَ عندَه = سوى الصبرِ أوحشْ بالذي صحبَ الصبَّرا
ما كانَ ذنبي عندَه غيرَ أنني = إذا مسَّني بالخيرِ لم أُطِلِ الشكرا
ولم أتكفَّفْ باليسيرِ ولم أكنْ = كمستأنِسٍ بالقُلِّ مستكثِرٍ تَزْرا
طموحٌ يُريني كلَّ شيءٍ أنالُه = وإنْ جلَّ قَدْراً دونَ ما أبتغي قدراً
حلَبتُ كِلا شطرَيْ زماني تمعْناً = فلم أحمَدِ الشطر الذي فَضِلَ الشطرا
شرِبتُ على الحالينِ بؤسٍ ونعمةٍ = وكابدتُ في الحالينِ ما نغَّصَ السكرا
حُبيتُ بنَدمانٍ وخمرٍ فغاطني = بأنيَ لا مُلكاً حُبيتُ ولا قصرا
ولا بهما مُتْعتُ ما زلتُ ساخطاً = على الدهر إذ لم يَحْبُني حاجةً أُخرى
فما انفكَّ حتَّى استرجعَ الدهرُ حلوَه = وحتَّى أراني أنني لم أذُق مرّا
وجوزِيتُ شرّاً عن طُموحي فها أنا = برغميَ لا خِلا تخِذتُ ولا خمرا
فإنْ يُشمِتِ الأقوامَ أخذي فلم أكن = بأوَّلِ مأخوذٍ على غِرَّةٍ غدرا
وإنْ تفترِسْني الآكلاتُ فبعدَ ما = وثِقتُ بها فاستلَّتِ النابَ والظُفرا
وإنْ تُلـهبِ الشكوى قوافيَّ حُرقةً = وغيظاً فإني قادحٌ كبِداً حرّى
وكنتُ متى أغضبْ على الدَّهر أرتجلْ = مُحرَّقةَ الأبياتِ قاذفةً جمرا
كشأنِ «زيادٍ» حين أُحرجَ صدرُهُ = وضُويقَ حتى قال خُطبتَه البترا
أو المتنبّي حينَ قالَ تذمُّراً = «أفيقا خُمارُ الـهمِّ بغَّضني الخمرا»
وما زلتُ ذاكَ المرءَ يوسِعُ دهرَه = وأوضاعَه، والناسَ كلَّهمُ كفرا
تحولتُ من طبعٍ لآخرَ ضدِّه = من الشيمةِ الحسناء للشيمةِ النَكرا
وكنتُ وديعاً طيب النفسِ هادئاً = فأصبحتُ وحشاً والغاً في دمٍ نَمرا
فلَو دَبَّر الباغونَ للكيدِ خطةً = رأوا أنَّني منهُمْ بَتدبيرِها أحرى
وَلو ملكَ قارونٍ ملكتُ دَفعتُه = على كرهِ بعض الناسِ بعضَهم أجرا
وشَجَّعتُ ما أقوى يَراعةَ كاتبٍ = يُزيحُ بها عن كلِّ ذي عورةٍ سِترا
ومَجَّدتُ من بَثَّ الدعايةَ ضَّدهم = ومَن قالَ في تَسخيفِ آرائهم شعرا
وَلو حَمَّ لي أنْ أحكمَ الناسَ ساعةً = وأن أتوَلى فيهُمُ النهيَ والأمرا
لمزَّقتُ وَجهاً بالخديعةِ باسِماً = ولا شيتُ ثَغراً بالضَغينةِ مُفترّا
وَقَطَّعتُ كفَّيْ من يمدُّ يمينَهُ = يَصافحني في حين تَطعنُني اليُسرى
وعا تبت سرا من يضل لنفسه = ومن ضلل الجمهور أخزيته جهرا
رأيتُ من الإِنسانِ يُطغيه عُجْبُه = من الخزي ما تأباهُ وحشيَّةٌ تَضرى
إذا أُغرِيتْ هذي بأكلٍ فريسةٍ = فهذا بأنْ يلـهو بتعذيبها مُغرى
أتعرفُ كم من أصيَدٍ مُمتلٍ قهرا = وكم حُرَّةٍ تشكو ومَن حولـها، الفقرا
لينعُمَ مَن إنْ عاشَ لم يُدرَ نفعُه = وإنْ ماتَ لم يعرِف لـه أحدٌ قبرا
أتعرفُ ما يأتيه في السرِّ ناصبٌ = على العينِ منظاراً على الناسِ مغترّا
يُقلِّبهُ بينَ الجموعِ دلالةً = على أنه أذكى من الناس أو أثرى
وما ميَّزتْهُ عن سواه فوارقٌ = سوى أنه قد أتقنَ الرَّقصَ والزمرا
وهذا الذي إحدى يديهِ بجيبهِ = وأُخراهما تلـهو بشاربه كِبرا
ولو فتَّشوا منه السِّبالينِ شاهدوا = خلالَهما العاهاتِ محشورةً حشرا
وهذا الذي رغمَ النعيم وشرخهِ = يُرى حاملا وجهاً من الحقدِ مُصفرّا
وهذا الذي إنْ أعجبَ الناسَ قولُه = مشى ليُريهمْ أنه فاتحٌ مِصرا..
وهذا الذي قد فخَّمتْه شهادةٌ = خلاصتُها أنَّ الفتى قارئٌ سطرا
ويكفيكَ منه ساعةٌ لاختباره = لتعلمَ منها أنه لم يزل غِرّا
وهَبْ أنه قد أُلـهِمَ العلمَ كلَّه = وحلَّلَ حتى الجوهرَ الفردَ والذرّا
وكانَ «شكسبيرٌ» خويدمَ شعره = وكانت لُغى الأكوان تخدُمه نثرا
فهل كانَ حتماً أنني أنحني لـه = وتصطكُ مني الركبتانِ إذا مرّا..!
ألمْ يدرِ هذا «الكوكب!» الفذ أنه = كما كان حُرّاً كان كلُّ امرىء حرّا
ذممتُ مُقامي في العراقِ وعلَّني = متى أعتزمْ مسرايَ أن أحمَدَ المسرى
لَعلي أرى شِبْراً من الغَدرِ خالياً = كفاني اضطهاداً أنني طالبٌ شِبْرا