لمْ أكن أعرف أنّ قطرة ماء، تــُساوي ملايين الدقائق العمرية بيني وبين مدينتي المتجدِّدة في الغياب.. طبعا، هذا بعدما تم نفيي – عفوا – تعييني في جنة..الجحيم، من الحدود هناك إلى الحدود هنا.. قبَّــلـْـتُ قطرات عرق ثمينة من على جبيني المرهق تماما، وأنا حديث الوصول إلى ال..هنا..
كنتُ يومها قد ترجـَّـلـْـتُ من سيارة * الـخـَـطـَّـافْ * الذي أقلـَّنـي من عوالمــي المضيئــة إلى * تـَـغْـبــَـالــْتْ *. مسافة مائة وسبعين دمعة بالتقريب، تتقيَّؤها رجلايَ اللتان بالكاد تحملاني من هول الخوف الذي غزا مشاعري حد التيه.. وكأني بها رحلة السندباد البرِّي إلى جزيرة الظلمات..
نـُـقـِـلـْـتُ من الخيط الأخضر .. إلى الخيط الأبيض.. من بعض نخلات آنستني بداية إلى مساحة من القفـــــار استقبلنـي نهايــــة.
وهو يودعني بنظرة مبهمة.. تتخللها مشاعر الشفقة، أمدَّنـِـي* الـخـَـطـَّـافْ *ببعض المعلومات البسيطة، لمساعدتي في الوصول إلى المكان الذي سيعانقني بيديه القاسيتين، كمعلِّم في مدرسة الحياة.
أول من استقبلني ذهولي وخوفي اليابس، تغمرني عين الطبيعة العذراء، تؤرق أفكاري بتمرِّدها.. لا شيء غير طنين العتمــة.. ولا ضوء سوى حفيــــــف البيــــــاض و المجهــــــول.
مرَّت ثلاث سنـــوات هـنـا.. هديــــــة لي نظيــــر سنـيـــــن الدراســـة والاجتهـــــــــــــــــــاد.
بحثت عني في هذا المكان المتجذر في البداية، فوجدت فراغــــا بحجمــــي والسمـــــاء، ولكن علي الصمــود عساي أجد ولو بعض مظاهر الحضارة التي لفظتني، وجدت الهواء ولم أجد الماء، وتــاه عني خبز أمي.
وأنا غارقٌ في الظلمة، لمسـَـتْ يدي الباردة يد طفل جميل، متـسخ تماما، لا يشبه تلاميذ الجبل في اللون أو الشكل، ( كأنني أعرفه، تساءلت في صمت) ترافقه ذبابة تشبه هذا المكان كلمة بلا معنى..
( صرخت في وجهه وأنا منفعل من تأثير اقتحامه لعزلتي وذكرياتي فجأة..)
- ماذا تريد؟ ألم أقل لك أن تصطحب والدك معك؟ تغيبك المستمر عن المدرسة أريد له تبريرا مقنعا.. من والدك نفسه.
- آسف معلمي، أبي مقعد تقريبا، اليوم جاء مع عكازه الذي ينوء بحمله، ويدي في يده تتحمل مرارة الباقي.. كل هذا قصد مقابلتك سيدي، فأنت المرآة التي نرى عبرها زيف الحياة، ووالدي هو الوجه الآخر للموت، لكن لا.. مازال في جعبته بعض من الشجاعة المحتضرة، إنه الآن تحت هذا الجبل المنكسر، بجانب شجرة عارية الأوراق، ينتظرنا..
- ماذا؟ لـِــمَ لمْ تخبرني عن مرض والــــدك؟ ثم ما هذا الكلام الغامــض؟ إنك تتحدث أكبـــر من سنـك بكثير.
- وهل كنت ستصدقني؟ ثم ما دخل سني ! هل للطفولة معنى في هذا المكان الغاضب من نفسه..؟ لا أظن.. ! الطفل كالكبير هنا.. يتحمل ثقل المسؤولية كذلك، ثم إنني حللت محل والدي المريض في الدكـَّـان، بعدما ازدادت حالته سوءا.. اليوم هو معافى تقريبا.. لأجلي يعيــش.. ورغم وحدتنا المريرة نبتسم للغد، لا أم ولا أخت لي، لا يوجد غيري وأبي، لكننا ننظر إلى ال..هنـاك.. عسى يوما نلتقي بمن نحب.. فهل أنا طفل حقـــا؟
- غريب أمرك يا بني، هيــَّا.. هيـــَّا معي لنقابل والدك.
( نزلنا من الجبل واقتربنا من ظل الأب النحيل، أحسست باختناق في صدري يزداد كلما اقتربت منه، كان ظهره لي، هممت أن اكلمه بلطف، أدار وجهه إلي ، فصدمت عندما رأيته، سألته بشدة: )
- يا إلهــي.. ما هــذا ؟، إن لك نفــس ملامحي، نفس العينين المحدقتيـن في البيـــاض، إنـك.. إنـك أنــا.. إلا بفارق شعيرات بيضاء تهاجم بقوة مساحة السواد المتبقية من شعرك..
( لم يجبني وبدأ الضباب يخنق عيني ،أحسست بالمرارة، حاولت التكلم معه مرة أخرى.. لم استطع، استدرت إلى الطفل استفسر منه، فإذا بي أتبين مدى الشبه بينه وبين هذا الرجل / الظل .. النحيل.. عندها سمعت صوت حبيبتي.. من مكان ما سحيق في الذكرى.. تقول لي ):
- لا تحزن يا عزيزي، سوف أنتظرك بلا ملل، أنا متأكدة بأنك ستعود لي يوما، سنتزوج وألــِــدُ لك "مصطفى" طفلنا الذي حلمنا به معا.. سنكون سعــــداء كأسرة متماسكــــــة.
- ( اختفت ابتسامة حبيبتي، اختفى الطفل والظل الرجل، اختفت الشجرة، و وجدتني وحدي وسط فناء المدرسة، يكاد يلتهمني السكون، خرجت مني زفرة عميقة وأنا أهمس بذهول):
- الحمد لله، اخـتــَـفـَـيــْــتُ، لا أحد غيــري والأمــل.
..................................................
• * الخطاف* : سائق سيارة أجرة أو حافلة صغيرة غير رسمـــي .
• * تغبالـــت* : قرية نائية خارج حدود * زاكورة* في المغــرب.
.................................................. .