"رسالة الأجوبة المصرية عن الأسئلة التونسية" للشيخ محمد بخيت المطيعي، ص125-142، مطبعة النيل بمصر، 1324هـ
***
قال الله تعالى: "فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ"، وقال تعالى: "إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ"، وقال تعالى: "إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ"، وقال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ"، وقال صلى الله عليه وسلم: "أتبع السيئة الحسنة تمحها". وقد جاء أيضا في بعض الأحاديث الصحيحة "غفران الذنوب بقيام رمضان احتسابا"، وفي بعضها "بقيام ليلة القدر احتسابا"، وفي بعضها "غفران الخطايا بالوضوء"، وفي بعضها "إن صوم يوم عرفة كفارة سنتين، وصوم عاشوراء كفارة سنة". ونحو ذلك من الأخبار كثير. وقد اتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي صغيرة كانت أو كبيرة واجبة على الفور، وقد اتفقوا أيضا على قبول التوبة متى وقعت مستوفية لشروطها وأنها تكفر السيئات كبيرة كانت أو صغيرة.
وإنما الخلاف في أنه تصح التوبة عن المعاصي إجمالا من غير تعيين الذنب المتوب عنه، ولو لم يشق عليه تعيينه أم لا؟ فالجمهور على أنها تصح، وخالف بعض المالكية، فقال: إنما تصح إجمالا فيما علم إجمالا، وأما ما علم تفصيلا فلا بد من التوبة منه تفصيلا. وكذلك الخلاف في وجوب التوبة على العاصي، فقال أهل السنة بالسمع، وقال المعتزلة بالعقل. وفي وجوب قبولها على الله تعالى عن ذلك بعد استجماع شروطها وعدم وجوبه، فقال أهل السنة: لا يجب قبولها على الله تعالى، وقالت المعتزلة: يجب عليه سبحانه قبولها عقلا. وقال إمام الحرمين: يجب قبولها سمعا ووعدا، لكن بدليل ظني؛ إذ لم يثبت في ذلك نص قاطع لا يقبل التأويل. وقال أبو الحسن الأشعري: بل بدليل قطعي. ومحل النزاع بين الأشعري وغيره فيما عدا توبة الكافر، أما هي فالإجماع على أنها مقبولة قطعا بالسمع؛ لوجود النص المتواتر بذلك كقوله تعالى: "قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ".
بخلاف ما جاء في توبة غيره؛ فإنه ظاهر فقط وليس بنص قاطع في غفران ذنوب المسلم بالتوبة كقوله تعالى: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ" الآية.
وأما حديث "التوبة تجب ما قبلها" فليس بمتواتر، ولأنه إذا قطع بقبول توبة الكافر كان ذلك فتحا لباب الإيمان وسوقا إليه، وإذا لم يقطع بتوبة المؤمن كان ذلك سدا لباب العصيان ومنعا منه. وهذا وما قبله ذكرهما القاضي لما قيل له: إن الدلائل مع الشيخ أبي الحسن. وقال ابن عطية: إن جمهور أهل السنة على قول القاضي. والدليل على ذلك دعاء كل أحد من التائبين بقبول توبته، ولو كان مقطوعا به لما كان للدعاء معنى. ولا يخفى أن كل ذلك لا يعادل الدلائل القرآنية والحديثية التي تدل دلالة قاطعة على وعد الله تعالى عباده التائبين بقبول التوبة منهم، وأنه لا يخلف وعده. فالحق ما قال الأشعري. ودعاء كل أحد من التائبين بقبول توبته لعدم الجزم باستجماعها شروطها، أو لعدم وجوب قبولها عقلا. وسيأتي لهذا بقية فانتظر.
وقد اختلف العلماء في تكفير السيئات بالقربات؛ فنقل ابن عبد البر عن العلماء أن الصغائر هي التي تكفرها القربات دون الكبائر، لكن بشرط اجتناب الكبائر كما حكاه ابن عطية عن جمهور أهل السنة. واستدلوا على ذلك بما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينها ما اجتنبت الكبائر". وحملوا السيئات في الآيات ما عدا آية التوبة والخطايا والذنوب في الأحاديث على الصغائر فقط، وقالوا: إنما لم نحملها على ما يعم الكبائر؛ لوجوه: الأول- أن الكبائر لا تكفرها إلا التوبة ولا تكفرها القربات أصلا للإجماع على أن التوبة فرض على الخاص والعام؛ لقوله تعالى: "وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ"، ويلزم من تكفير الكبائر بغير التوبة بطلان فرضيتها، وهو خلاف النص.
الوجه الثاني- أن الكبائر تشمل حقوق العباد، والإجماع على أن القربات لا تكفرها وإنما تكفرها التوبة بشروطها المعلومة المعتبرة.
الوجه الثالث- أننا لو قلنا: إن القربات تكفر السيئات سواء كانت من الكبائر أو الصغائر يلزم عليه الفساد، وهو عدم خوف الميعاد. الوجه الرابع- أن سبب نزول قوله تعالى: "إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ". يرشد إلى تخصيص الحسنة بالتوبة والسيئة بالصغيرة؛ فقد روى الشيخان "عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت الآية فدعاه فقرأها عليه، فقال رجل: هذه له خاصة يا رسول الله؟ فقال: بل للناس عامة"، ووجه الإرشاد إلى تخصيص الحسنة فيها بالتوبة هو أنه جاء تائبا، وليس في الحديث ما يدل على أنه صدر منه حسنة أخرى. ووجه الإرشاد إلى تخصيص السيئة بالصغيرة أن ما وقع منه كان كذلك؛ لأن تقبيل الأجنبية من الصغائر كما صرحوا به.
وقد اعترضوا على هذه الوجوه: أما على الوجه الأول فبأنا لا نسلم أنه يلزم من تكفير الكبائر بغير التوبة بطلان فرضيتها؛ لأن ترك التوبة حينئذ يكون من الذنوب المتجددة بعد التكفير السابق بالقربة؛ ألا ترى أن التوبة من الصغائر واجبة على ما نقل عن الأشعري. وحكى إمام الحرمين وتلميذه الأنصاري الإجماع عليه، ومع ذلك فجميع الصغائر مكفرة بنص الشارع وإن لم يتب فالتحقيق أن التوبة واجبة في نفسها على الفور، ومن أخرها تكرر عصيانه بتكرر الأزمنة كما صرح به الشيخ عز الدين بن عبد السلام. ولا يلزم من تكفير الله ذنوب عبد سقوط التكليف بالتوبة التي كلف بها مستمرا. وقد يجاب عن هذا بأن حكاية الإجماع على خصوص وجوب التوبة من الصغائر غير مسلم؛ فقد قيل: إن الواجب إما الإتيان بالتوبة أو بمكفر المعصية من الحسنة. نعم، الأصح وجوبها مطلقا، وبأن المصرح به في شرح الجوهرة أن التمادي على الذنب بتأخير التوبة منه معصية واحدة ما لم يعتقد معاودته. وصرحت المعتزلة بأنها واجبة على الفور حتى يلزم بتأخيرها ساعة إثم آخر تجب التوبة عنه، وساعتين إثمان، وهلم جرا. فالقول بتكرير العصيان على من أخرها بتكرير الأزمنة قول المعتزلة لا قول أهل السنة على هذا.
وقال المازري: اتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة، وأنها واجبة على الفور ولا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة. اهـ. فأنت ترى أن مقتضى عبارة المازري الوجوب على الفور مطلقا، لكن حكاية الاتفاق على وجوب الفور بالنظر إلى الصغيرة غير مسلمة؛ فإن قول اللقاني في جوهرة التوحيد:
ثم الذنوب عندنا قسمان * صغيرة كبيرة فالثاني
منه المتاب واجب في الحال
يقتضي أن وجوب الفور خاص بالكبيرة دون الصغيرة. وبعد هذا، كلام المازري يحتمل تكرار العصيان بالتأخير كما يقول المعتزلة، كما يحتمل أن التمادي على الذنب معصية واحدة ما لم يعتقد معاودته كما نسبه شارح الجوهرة لأهل السنة. فدعوى أن التوبة واجبة بنفسها على الفور مطلقا، وأن من أخرها تكرر عصيانه بتكرير الأزمنة- غير متفق عليها؛ فللفريق الآخر أن لا يسلمها. على أنه يمكن أن يحمل وجوب التوبة من الصغيرة على ما إذا لم تكفر بالقربة، فيكون الواجب أحدهما في الصغيرة دون الكبيرة؛ فإنها يتعين فيها التوبة لعدم حكاية خلاف في وجوبها منها عينا. وما ذاك إلا لأنها لا يكفرها إلا التوبة منها، وسيأتي لهذا زيادة إيضاح.
وأما على الوجه الثاني فبأن حقوق العباد مستثناة من الكبائر التي تكفرها القربات بالإجماع الذي ذكرتموه، وذلك لا ينافي أن غيرها من الكبائر تكفره القربات أيضا، فلا يتم ما ادعيتموه من أن شيئا من الكبائر لا تكفره القربات .
وأما على الوجه الثالث فبأن لا يلزم من عموم التكفير عدم خوف الميعاد حتى يلزم الفساد كما زعمتم، إلا لو قلنا: إن التكفير واجب على الله تعالى. ولو لزم ذلك على القول بعموم التكفير بالقربات للزم مثله بالنسبة إلى التكفير بالتوبة؛ فإنها باتفاق تكفر الصغائر والكبائر، ولا يلزم من عموم تكفيرها عدم الخوف من الميعاد ولزوم الفساد. وقد تقدم الخلاف في القطع بقبول توبة العاصي، وأن مختار إمام الحرمين أن القبول ظني. وادعى النووي أنه الأصح، وإن قال الإمام في شرح البرهان: الصحيح عندي القطع بالتكفير. وقد وفق الحليمي بأن عدم القطع عقلي، بمعنى أنه لا يجب على الله عقلا قبولها. والقطع نقلي، بمعنى أن الله لما أخبر عن نفسه سبحانه أنه يقبل التوبة من عباده، ولم يجز أن يخلف وعده- علمنا أنه سبحانه من فضله لا يرد التوبة الصحيحة. وهذا بالحقيقة ميل من الحليمي إلى مذهب الأشعري، وتأويل لمختار إمام الحرمين.
وعلى كل حال، قوله تعالى: "يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ" وغيرها من الآيات والأحاديث- فيها دلالة على أن العقاب على الكبيرة بعد التوبة، وعلى الصغائر بعد التكفير جائز الوقوع عقلا كما صرح به النسفي وصدر الشريعة وغيرهما، فهذا هو الذي جعل العباد يخافون الميعاد، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
وأما على الوجه الرابع فبأن المصرح به في الأصول أن العبرة في النصوص الشرعية لعموم اللفظ لا لخصوص سبب الورود؛ لأن سبب الورود قد يكون جزئيا من جزئيات النص الوارد كما هنا، على أنه جاء في بعض طرق الخبر الوارد في سبب النزول "أن أبا اليسر من الأنصار قبل امرأة، ثم ندم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما فعل، فقال عليه الصلاة والسلام: أنتظر أمر ربي. فلما صلى صلاة قال صلى الله عليه وسلم: اذهب بها؛ فإنها كفارة لما عملت" فهذا يدل على أن المكفر هي الصلاة التي صلاها أبو اليسر، وأنها داخلة في الحسنات التي تذهب السيئات.
هذا، وقد اختلف القائلون بتكفير الصغائر فقط بالقربات هل هو مشروط باجتناب الكبائر؟ فقال الجمهور: هو مشروط كما سبق، وقال غيرهم: ليس بمشروط. استدل الجمهور بأن ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتنبت الكبائر"- يفيد الاشتراط كما يقتضيه "إذا اجتنبت الكبائر" الآتي في بعض الروايات. ولا يخفى أنه استدلال بمفهوم المخالفة للشرط، وفيه خلاف يأتي الكلام فيه. وقال الآخرون: الشرط في الحديث بمعنى الاستثنا، والتقدير مكفرات لما بينها إلا الكبائر. قال المحب الطبري في أحكامه: وهو الأظهر. اهـ.
ولا يخطر على بالك أنه على هذا الأخير يكون الحديث دليلا على عدم تكفير الكبائر بالقربات؛ لأن الحديث أولا ورد في خاص، ولا يلزم من أن هذه القربات الخاصة لا تكفر الكبائر أن ما عداها كذلك، والقياس لا مدخل له هنا. ثانيا- أنه استدلال بمفهوم الاستثنا وهو غير متفق على حجيته. ثالثا- أن كون الشرط بمعنى الاستثنا ليس بقطعي، وقد صرح النووي بأن القربات لا تكفر الكبائر ولكن تخففها إن لم تكن صغائر.
وقال ابن الصلاح في فتاويه: قد يكفر بعض القربات كالصلاة مثلا بعض الكبائر إذا لم يكن صغيرة، وقال بعضهم: إن القربة تمحو الخطيئة مطلقا سواء كانت كبيرة أو صغيرة، وإليه ذهب صاحب الذخائر. واستدلوا على ذلك بظاهر قوله تعالى: "إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ"، وقوله عليه الصلاة والسلام: "أتبع السيئة الحسنة تمحها"، وبما صح في عدة أخبار "من فعل كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"، وفي بعضها "خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"، ومتى حملت الحسنات في الآية والحسنة في الحديث على الاستغراق فالمناسب حمل السيئات عليه. وبالجملة، فكل من الآية والحديث عام والتخصيص خلاف الظاهر، ولا دليل عليه، وفضل الله واسع. وإلى هذا القول مال ابن المنذر وحكاه ابن عبد البر عن بعض معاصريه، قال الألوسي: وعنى به فيما قيل أبا محمد المحدث. لكن رد عليه، فقال بعضهم: يقول: إن الكبائر والصغائر يكفرها (الطهارة والصلاة لظاهر الأحاديث)، وهو جهل بين وموافقة للمرجية في قولهم، ولو كان كما زعم لم يكن للأمر بالتوبة معنى. وقد أجمع المسلمون على أنها فرض. وقد صح أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه "الصلوات مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر". اهـ. وفيه أن دعوى أن ذلك جهل لا تخلو عن إفراط؛ إذ الفرق بين القول بعموم التكفير ومذهب المرجئة في غاية الوضوح، ولو صح أن ذلك ذهاب إلى قولهم للزم مثله بالنسبة إلى التوبة؛ فإنه يسلم أنها تكفر الصغائر والكبائر، وهي من جملة أعمال العبد. فكما جاز أن يجعل الله سبحانه هذا العمل سببا لتكفير الجميع يجوز أن يجعل غيره من الأعمال كذلك.
وقوله: لو كان كما زعم ... إلخ- مردود؛ لأنه لا يلزم من تكفير الذنوب الحاصلة عدم الأمر بالتوبة وكونها فرضا؛ إذ تركها من الذنوب المتجددة التي لا يشملها التكفير السابق بفعل الوضوء مثلا؛ ألا ترى أن التوبة من الصغائر واجبة على ما نقل عن الأشعري، وحكى إمام الحرمين وتلميذه الأنصاري الإجماع على ذلك. ومع ذلك فجميع الصغائر مكفرة بنص الشارع وإن لم يتب على ما سمعت من الخلاف، وتحقيق ذلك أن التوبة واجبة في نفسها على الفور، ومن أخرها تكرر عصيانه بتكرر الأزمنة كما صرح به الشيخ عز الدين بن عبد السلام. ولا يلزم من تكفير الله تعالى ذنوب عبد سقوط التكليف بالتوبة التي كلف بها تكليفا مستمرا، وقريب من هذا ارتفاع الإثم عن النائم إذا أخرج الصلاة عن وقتها مع الأمر بقضائها. وما ورد من حديث أبي هريرة إنما ورد في أمر خاص فلا يتعداه؛ إذ الأصل بقاء ما عداه على العموم. وهذا مما لا مجال للقياس فيه حتى يخص بالقياس على ذلك، فلا يليق نسبة ذلك القائل إلى الجهل والرجا في الله تعالى شأنه قوي كذا قيل. اهـ. وأقول: إن المسألة سمعية محضة لا مدخل للعقل فيها بالكلية، والنصوص الواردة في ذلك متعارضة متكافئة. ومنها ما يقتضي عموم التكفير، ومنها ما يقتضي تخصيصه بالصغائر. ولكن الإجماع على فرضية التوبة من الكبائر يدل على التخصيص، والقول بأن التوبة من جملة أعمال العبد؛ فكما جاز أن يجعل الله سبحانه هذا العمل سببا لتكفير الجميع يجوز أن يجعل غيره من الأعمال كذلك- مردود على قائله؛ لأنه إن أراد الجواز العقلي فمسلم، وليس الكلام فيه. وإن أراد الوقوع السمعي فهو يتوقف على قيام الدليل على أنه سبحانه كما جعل التوبة سببا لتكفير الجميع جعل غيرها من الأعمال سببا لذلك، ولم يقم دليل على ذلك. ومجرد دعوى أن غير التوبة مثل التوبة في عموم التكفير هو موضع النزاع، والقول بأن لا يلزم من تكفير الذنوب الحاصلة عدم الأمر بالتوبة ... إلخ قد علمت مما قدمنا أنه غير متفق عليه، وأن منهم من قال: إن التمادي على الذنب بتأخير التوبة منه معصية واحدة ما لم يعتقد معاودته. ولا يقال: إنه تمادي على الذنب مع القول بتكفيره وسقوطه بالقربه؛ فإن التمادي عليه يقتضي بقاءه، وذلك يقتضي أنه إذا لم يتب فالذنب باق ويعد متماديا عليه وما استظهر به من قوله؛ ألا ترى أن التوبة من الصغائر واجبة ... إلخ- قد علمت ما فيه، وأن المسألة خلافية، وأن منهم من قال في الصغائر: إن الواجب إما التوبة وإما ما يكفرها من القربات، ولم ينقل أن أحدا قال مثل ذلك في الكبائر، بل الذي نقل هو الإجماع على وجوب التوبة منها، فما ذاك إلا لأنها لا يكفرها إلا التوبة. على أن قوله: على أن الصغائر مكفرة بالنص وإن لم يتب، وإن كان مسلما لكن لا يدل على أن أحدا قال بوجوب التوبة بعد تكفير الصغيرة بغيرها. وكذا القول بأنه لا يلزم من تكفير ذنوب عبد سقوط التكليف بالتوبة ... إلخ قول ساقط؛ لأن المعصية صغيرة كانت أو كبيرة هي التي أوجبت التوبة، وهي السبب في ذلك وليس لإيجابها والأمر بها سبب سواها، ولفظ التوبة يشعر بذلك؛ فالمأمور بها في الآية إنما هم المذنبون؛ ألا ترى أنه لو تاب العاصي من المعصية وسقطت معصيته بالتوبة لا تجب عليه التوبة منها مرة أخرى؟ فلو قلنا بسقوط الكبائر وتكفيرها بغير التوبة لم يكن للأمر بها بعد ذلك معنى كما قال ابن عبد البر؛ لأنها إنما أمر بها وفرضت لمحو الذنب وتكفيره، ومع القول بتكفير الكبيرة بالقربات لم يبق ذنب بعد فعل القربة حتى يؤمر بالتوبة وتفترض لمحوه وتكفيره.
ومن تأمل قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ"، وكيف رتب رجاء التكفير على الأمر بالتوبة- لا يأبى قبول ما قلناه.
هذا، ولو قلنا: إن كانت الحسنة توبة صحيحة من جميع الذنوب مستجمعة للشروط أو قربة أخرى، لكنها اشتملت على توبة صحيحة كذلك- كانت الحسنة مكفرة لجميع المعاصي كبيرة كانت أو صغيرة؛ لأنها إما توبة صريحة وإما توبة معنى. وعلى ذلك يحمل قول من قال: بعموم التكفير بالقربات، وأن مراده القربات التي هي توبة من الذنوب أو متضمنة للتوبة منها. وإن لم تكن الحسنة والقربة توبة ولا مشتملة على توبة كانت مكفرة للصغائر فقط. وعلى ذلك يحمل قول من قال بعدم عموم التكفير، وأن الكبائر لا تكفرها إلا التوبة، وأن مراده بالقربات التي لا تكفر الكبائر القربات التي لا تكون توبة من المعاصي ولا مشتملة على توبة منها- لكان ذلك توفيقا حسنا بين القولين، وبه يرتفع الخلاف ويحل الوفاق محل الشقاق، فليكن التوفيق بتوفيق الله تعالى.
وقالت المعتزلة: إن الصغائر تقع مكفرة بمجرد اجتناب الكبائر، ولا دخل للقربات في تكفير الصغائر أيضا، واستدلوا عليه بقوله تعالى: "إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ" .
وأقول: لا دليل في الآية على ما زعموا؛ لأننا إما أن نقول بحجية مفهوم المخالفة للشرط أو لا نقول بحجيته. أما على القول بحجيته فالمعنى إن اجتنبتم الكبائر نكفر سيئاتكم، وإن لم تجتنبوا لا نكفرها، فيدل المفهوم على ما زعموا. لكن قد عارض ذلك المفهوم منطوق العام في قوله تعالى: "إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ"، وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "أتبع السيئة الحسنة تمحها"، وقد علمت أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. واجتناب الكبائر إنما يكفر السيئات باعتبار كونه حسنة وقربة؛ لما صرحوا به أنه إنما يكفرها إذا كان مع القدرة والإرادة وكف النفس، ومرادهم بالإرادة الميل لا التصميم والعزم الذي يستعقب الفعل، وقد عارضه أيضا الأحاديث الكثيرة التي دلت على تكفير الصغائر بالقربات. والمنطوق حجة اتفاقا والمفهوم في حجيته خلاف، فيقدم عليه المنطوق.
وأما على القول بعدم حجية مفهوم المخالفة فالأمر ظاهر، وتكون الآية ساكتة عما عدا اجتناب الكبائر من القربات، وقد نطق غيرها من النصوص بأن غير الاجتناب من القربات يكفر كالاجتناب، فيخلص المنطوق عن المعارض بالكلية.
بقي هنا إشكال وهو أنه إذا كان كل واحد من المكفرات مكفرا للصغائر فقط أو لها وللكبائر، وحصل التكفير بأحدها- فما فائدة الباقي؟ وأجيب عن ذلك بأن المراد أن كل واحدة من هذه المكفرات صالحة للتكفير؛ فإن صادفها شيء من الذنوب كفرته، وإن لم يصادفها شيء منها كانت حسنة لفاعلها يرفع بها درجة.
ومتى علمت مما أوضحنا أن من أهل السنة من قال بعموم تكفير القربات للصغائر والكبائر علمت أن ما نقله الشيخ في صغراه عن بعض الصحابة رضي الله عنهم هو مذهب ذلك البعض، وقوله: أربعة آلاف ذنب من الكبائر- قصد به المبالغة في الكثرة، لا خصوص ذلك العدد. ونقل الشيخ لهذا عن بعض الأصحاب وسكوته عليه ربما يكون ميلا منه إلى مذهب من يقول من أهل السنة بعموم التكفير.
ومتى علمت أيضا مما أوضحنا أن قبول التوبة عند أهل السنة ليس واجبا على الله تعالى عقلا، كما أنه لا يجب عليه عندهم إثابة الطائع ولا تعذيب العاصي، بل الثواب بفضله والعقاب بعدله، يفعل ما يشاء ويحكم سبحانه لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه-
علمت أن كلا من المطيع والعاصي بعد التوبة والتكفير وقبل ذلك جميعا تحت مشيئة الله سبحانه، وكونهم جميعا تحت مشيئته يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء لا ينافي النص والإخبار منه تعالى في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأن القربات تكفر الذنوب، وأن التوبة تمحو السيئات فضلا منه وكرما. والتنصيص على بعض القربات في بعض الأحاديث والآثار كالذي نقله الشيخ في صغراه لا يقتضي الخصوصية، بل ذلك لبيان أن ما نص عليه من جملة المكفرات، والنص على شيء لا ينفي الحكم عما عداه. وبذلك سقط السؤال وزال الإشكال.