غصة أخر المشوار
أقبل الليل وسرت نسماته باردة ، لفحت جسد أبو صالح السبعيني ، فتدثر بما طالته يداه وتوفر من أغطية وهراديس ، وكمكر نفسه في زاوية الغرفة الطينية ، التي تشكل بمفردها بيت، يحيط بها فناء خالي من أي شيء، عدا بناء طيني أخر ،تمارس فيه أم صالح الطبخ والنفخ والغسيل وإعداد المونة ،وغير ذلك من الأعمال المنزلية.
كان من عادة أبو صالح في مثل هذه الليالي الباردة ، أن يدفئ جسده بجرعة أو جرعتين من الكونياك ، أو العرق أو ما يتوفر لديه من مشروبات روحية ، يمجهم خلسة عن أم صالح ، ذلك الرابوق التي كانت تقف له دوما بالمرصاد ، شاهرة لسانها السليط ، تنصب له الكمائن ، متأهبة لكل حركة قد تطال يده فيها كأسا أو بطحة أو ما شابه ذلك .
أبو صالح يعاني الأمرين من الفقر ، بعد سبعين عاما من السعي ، والترحال وخيبة الأمل ، وراء لقمة العيش .
ورث الفقر كغيره من عائلات كثيرة في القرية ، وورثه لأولاده من بعده ، الذين تركوا البيت والقرية ، دونما التفاتة إلى الوراء ، وسعوا في دنيا الله الواسعة ، كل يريد خلاصه من هذا الواقع الأليم ، فمنهم من وجد نفسه خارج البلاد ، ومنهم من سعى إلى وظيفة ومنهم خابت أماله من الواقع المحيط ، وسطوة الواسطة والمحسوبية ، فاعتكف في البيت يجتر ألامه شعرا .
حدق أبو صالح مليا في الغرفة ، وجال نظره في زواياها ، فلم يقع نظره على ما يبهج النفس ، عاين سقف الغرفة ،عد أخشابه وتمعن بالقصب الذي يعلو الخشب وما ألت إليه حالته من اهتراء ، وأماكن الدلف .
في زوايا الغرفة ، حصيرة تباعدت شرائطها حتى بانت ارض الغرفة الطينية من تحتها ، تحيط بها مجموعة من المساند المحشوة بالقش ، لم يعد لها شكل هندسي معين ، تجاري بعمرها سني زواج أبو صالح ، باب الغرفة الخشبي أضحى جافا، وتباعدت أخشابه لدرجة أن أية هائمة تستطيع الدخول من خلال شقوقه دون عناء .
في زاوية البيت نملية ترتكز على ثلاث قوائم فقط ، وبدل الرابعة وضعت أم صالح حجرا كي توازنها ، وتضم في داخلها كل ما ادخرته من مونة للشتوية ، والتي لا تتعدى قطرميز مكدوس ، وأخر من الجن البلدي ، وتنكة زيت كوره ، اشترتها أم صالح بالتقسيط المريح، وكم كيلو شنكليش وشوية كسيد .
من تحت النملية أطل صرصور كبير أشقر اللون بشاربين طويلين ، ما لبث أن اختفى مع نحنحة أبو صالح ، وبعد هنيهة عبر فأر الغرفة من أقصاها إلى أقصاها بسرعة كبيرة، دون أن يعترض سبيله شيء، وكثيرا ما كانت أم صالح في مثل هذه الأحوال تستنجد بابي صالح ، لخوفها وقرفها الشديد من الفأر ، فكان أبو صالح يجيبها بكل برودة أعصاب " شو شايفتيني قط يا بنت الاوادم "
جال أبو صالح بخاطره بواقع الحال الذي أل إليه ، بعد مشوار العمر المترع بالتعب والألم والخيبة و أعتلج صدره بالسخط والحقد على هذا الزمان الغدار، الذي أصبح فيه لا يملك حق التصرف بحرية في بيته ، ولا حتى مزاولة هوايته في معاقرة الخمرة ،هربا ولو لبضع ساعات من مستنقع الألم والفقر.
لقد أصبح أبو صالح محاصرا من كل الجهات ، الفقر ، الصحة المعتلة، البصر الشحيح ، الهمة الضعيفة ، أم صالح التي تسد عليه نوافذ المتعة التي ينشدها في لحظة قهر .
لم يقتنع أبو صالح في يوم من الأيام بواقع الحال ، لكنه لم يسع لتغييره لا انعدام الحيلة والوسيلة من جهة ، ولفقدانه فرصة عمره في يوم من الأيام عندما كان موظفا لدى الحكومة تحت ضغط تعاطي المشروبات الروحية .
فأكمل حياته في العمل المأجور الذي لم يغن يوما من فقر ولا يسد جوع .
مضى قطار العمر سريعا ، و مطباته كانت كثيرة ومؤلمة ، العمل العضلي استنزف قواه ، وها هو ألان يستند إلى حائط الغرفة الخاوية ، يجتر ألامه ، ويتحسر على أماله الضائعة بالحياة الكريمة ، ويشيع بنظراته ما تبقى له من شقاء في هذه الحياة متمنيا الخلاص بأقل الخسائر وسترة الحال،وعدم الحاجة إلى الآخرين .
من أتون الألم ولظى الحسرات ابتسم أبو صالح للفأر الذي عاد ثانية يزرع الغرفة جيئة وذهابا بحرية تامة دونما وجل أو إزعاج .
- صرنا نحسد الفار ع عيشتو ..... تمتم أبو صالح ، ومال برأسه على الوسادة ، ولم يستفق إلا على صراخ أم صالح :
- قوم اندفس مليح ..... يابو صالح