قدِمت الجَدّة فاطمة دون رغبتها الى المدينة، من قريتها الكائنة حيث ينحني نهر النيل ثم يستقيم مسرعًا نحو الشمال يَشق التِيه تحُفه الأشجار والرمال وآثار التاريخ القديم. فقد الحَ عليها ابنها الوحيد أن تأتي لتعيش معهم فى المدينة. حيث يشغل مركزا مرموقا ويعيش مع زوجته وطِفْليه. عندما علمت بنبأ رحيلها من القرية انتابتها حالة من الاكتئاب. لأنها تكره الرحيل لارتباطها العميق بجذورها فى القرية، فأودَعت أغنامها للحاجة نفيسة لترعاهم فى حظيرة أغنامها حتى عودتها.وطلبت من ودعَكر أن يرعى حقلها ونخيلها عند ضفة النهر بالرىّ، ثم غادرت القرية.
مَرت الأيام وأعقبتها الشهور، وهى تنادي بالرحيلِ حيث ينحنى نهر النيل. وابنها يوعِدها بالرجوع للقرية يومًا بعد يوم حتى يئست. وأصبحت كثيرة الصمت، لاتداعب أحفادها كما كانت ولا تتحدث مع زوجة ابنها.
وانعزلت نهائيًا عن مجتمع المدينة، لاترحب بالزوار ولاتخرج مع الأسرة. تجتر ذكريات القرية. وصاحباتها المُسنات، عندما يجلسن ليتسامرن طوال اليوم تحت شجرة النيم الظليلة فى بيتها المتواضع المبنى من الطين كبقية بيوت القرية، تغشاهُن غفوة تقدم العمر لا إرادياً عند منتصف النهار فينُمن كأصحاب الكهف . ثم تزول الغفوة. يحتسيّن الشّاى ويثرثرن، حتى إذ انقضى النهار مُفسحا للليل مكانه، توشحت القرية السواد الحالك، ينبَلِج ضُوء القمر وتتسرب خيوطه الفضية بين أشجار النخيل، لترمى بظلالها التى تتحرك مع نسائم الليل كالأشباح على صَفْحَة النيل . عندها يخرجن النسوة لجلب الماء . كانت تتذكر كل ذلك وتتحدث كثيرا قبل إعلان إضرابها عن الحديث وعن الحَمّام. صمتها كدر صفو حياة الأسرة. حياة المدينة الصاخبه الفردية لاتستهويها لا زيارات ولا خروج، حيث لاتجد العفويّة، كل شئ مُتكلّف حيث تطالبها زوجة ابنها بأن تغير لهجتها القروية التى تتحدث بها حتى لاتفضحها مع جاراتها، وهى لا تستطيع إلى ذلك سبيلاً. وأن ترتدي الثياب التى تختارها لها، وأن تَسّتحِم كلما أمرتها بذلك. الجَدّات المُسنات فى المدينة منبوذات فى حُجرات تنتبذ ركنًا قصيًا من المنزل. وهذا ما أثار حفيظتها وجعلها تتمرد على حياة المدينة.
اجتمع مجلس الأسرة ليناقش الجَدّة فاطمة لتفك اضرابها عن الكلام والحمّام. إذ صارت تنبعث منها رائحة العرق والملابس المُتسخة. رفضت رفضًا باتًا التفاوض خاصةً الحمّام، لانها تكره حمّام المدينة المُتحضر لاتريد أن تستحم بماء يخرج من ثقوبٍ وهى تقف على حوض أبيض زَلِق هذا جنون. أخيرًا بعد أن هجر أحفادها حجرتها النَتِنة، وأصبحت وحيدة لا يستطيع أحد الجلوس قُربها.
نادت على ابنها وهمست له: أُريد أن أستحم
قفز واقفًا وصفق بيديه فرحًا لقد تركت أمه العِصيان. نادى زوجته وأمرها بتجهيز الحَمّام. صرخت الجدة بأعلى صوتها: لا أريد حمام المدينة أريد حمّامي الذى تعودت عليه فى القرية. داخل حجرتي لن أتحرك من هنا.
امتعضت الزوجه وعبّرت عن سخطِها بضرب أقدامها بشدة على الأرض، وقذفت بالمناشف بعيدا فهى لاتعرف حمّام القرية.
أخبرت زوجها بأنها لاتستطع مجاراة عِناد أمه. ولاتعرف طقوس حمّام القرية لأنها بنت المدينة.
قالت لها الجدة: أنا..ه.ها.. زمان.. زمن ..الزمان ..زين . كنت أريد لابنى زوجة من قريتنا ولم يسمع كلامى .تعرف مَناسِك حمّام القرية ولاتتضجر مثلك. تباً لك
صمتت الزوجة وهى تنظر إليها نافدة الصبر تكتم غيظًاً، والجَّدة تستعرض بنات القرية ..ه.ها. أم الحسن بنت مقبول..والرضيّة بنت أبوزيد..ه.ها.. كلهن أجمل منك وتكيد لها.. وتكيد وتكيد حتى غفت فى سبات عميق غفوة تقدم العمر الّلاإرادية .
جاء ابنها وطلب منها أن تشرح لرشا زوجته حمّام القرية. استعدلت الجدة جلستها ومَصّمصت شفتيها مُستهجنه جهل زوجة ابنها قالت: أولا أزيلى هذا السِجّاد من حجرتى..ه.ها.. وضَعى الطست فى منتصف الحجرة..ه.ها.. واملئي الجَرّدل بالماء..ه.ها.. وضعى الصابونة فى لِيفة من لحاء شجرة النخيل..ه.ها وأحضرى كوبا لأصب به الماء فوق رأسى..ه.ها..فهمتى شيئاً..ه..ه..ها!. أسرعت الزوجة تكتم انفجار يمور فى داخلها كالبركان. وأزالت السِجاد من على بلاط السراميك، ووضعت لها كل ماطلبته. تحركت الجَدّة ببطء وخلعت ملابسها المتسخة وألقت بها على الأرض. وتوسطت الطَسّت وجلست القرفصاء، وتناولت الكوب ودلقت الماء فوق رأسها فتسرب مندفعًا فى انحناءات جسدها المُترهل متخذًا طريقه نحو الأسفل، هى تلاحقة بالصابونة المتمردة الملفوفة داخل اللِيفة، تنفلت من يدها المرتجفه فتَلّعنها الجَدَة، محاولة إزالة الأوساخ التى تراكمت مع العَرق ــ ابتسامة الرضا تُنير وجهها المتغضن ــ فقد انتصرت على زوجة ابنها، فهى لم تمارس مَناسِك حَمِام القرية منذ قدومها، انتشر رذاذ الماء، وتناثرت الرغوة على السراميك وامتلأت أرضية الحجرة بالماء وفقاعات الصابون، وعندما نهضت الجَدّة واقفةً من جلسة القُرفصاء خارج الطَسّت وضعت قدمها على الصابونة فزَلّت وسقطت محدثة ضجيجًا عاليًا إذ حاولت التمسك بالجَرّدل فانزلق هو الآخر مُغرقاً الحجرة بالماء. هرول الجميع لاستجلاء الخبر فوجدوا الجَدة ملقاةٌ على الأرض عارية، أسرع ابنها وألقى عليها ثوبها، ونُقلت للمشفى لعلاج الكسور المُركبة التى أصابتها إثر مَناسِك حمَام القرية.
قطار الشمال ينهب الأرض نهبًا فى اتجاه منحنى نهر النيل حيث تطلّ الجَّدة من النافذة فترى السُرة، وسعدية، ونفيسه، وصالح صاحب الكَنْتِين والكَجم الجزّار، والحَقِى بائع الخضار، والترزي عبد الكريم وكل القرية التى افتقدتها فرحةً بقدومها،رَسمت خطواتها فوق الرمال، وعادت أغنامُها الى الحَظِيرةِ.
جذورقا عالقة هناك
من الصعب أن يغير الأنسان ما أعتاد عليه وخاصة اذا كان في ذلك الراحة لنفسه
كانت تريد أن تمارس حياتها على طبيعتها بعيداً عن النفاق والمظاهر والزيف الذي تم فرضه عليها
فكان الحمام قنديل العودة لتتنفس من جديد
رغم بساطة أحداث الحكــاية ، إلا أن الكاتبة كانت موفقة جداً بالتوصيل ، واشتغلت الخاتمة بأناقة كبيرة.
فالتشبث بالأرض ، لغة لايجيدها إلا المتجذرون.
تحيـاتي ، وبالغ إعجابي.
الأخت الكريمة الأستاذة عواطف
رمضان كريم
شاكرة لك مرورك البهى على صفحة قصتى القصيرة واتطلع دومل لتعليقك.. لقد تغيبت عن المشاركة بسبب مغا درتى للدوحة حيث مكثت شهران لم يتوفر لى النت وانا فى شوق لتصفح المنتدى والآن عدت وساواصل واترقب مداخلاتك الجميلة ونقدك البناء... وكل عام وأنتم بخير
الأستاذة كوكب البدرى
رمضان كريم
إقتلاع الجذور ورحيلك عن ارض تحبها لشى مؤلم.. ان تفارق اهلك واحبابك وتراب طالما رسمت خطاك منذ الطفولة هو العذاب بعينه.. لذلك انا ناشطة فى مجال المرأة النازحة واعلم معاناتهم تماما لقد رأيت دموعهم وهم لاجئيين وكتبت كثيرا عنهم وأسميته أدب النزوح أنه الوجه الآخر للحياة.... الرحيل القسرى يعز الصبر عند حلوله..