لم يكن يعلم أبو عدنان محسن القرشي ان هذا اليوم هو اليوم الذي كان يتمناه، ولكنه كان يتحاشاه لمافيه من المشقة لكن هذه المشقة ترافقها متعة تجعل المرء يحلق في عالم عاشه مَنْ سبقونا في هذه الدنيا . تجوّل وتسلّق ومتابعة تقفي آثار في الجبال الشاهقة الكبيرة، هي فرصة للتمتع
بمشاهدة الصخور الجرداء التي يختبئ خلف نتوءاتها البارزة أعشاش طيور تحلم بإلتقاط رزقها صباح مساء والعودة سالمة لإطعام صغارها حتى يكسو زغبها جيداً وتحلق مثلها في سماء زرقاء ليس فيها إلاّ النقاء والصفاء.
هي إذاً مهمة رسمية ياأبو عدنان ستمارس من خلالها طقوس عملك المحبب.
استدعاه الضابط وأطلعه على الشكوى التي تقدم بها أحد المواطنين عن فقدان شخص يعاني من مرض نفسي وعقلي،،وان اهله لم يتركوا مكاناً يتردد إليه إلاَّ وبحثوا عنه فيه أو صديقاً أو أي شخص كان يراه إلاّ سألوه ولم يعرفوا عنه شيئاً، ولم يبلّغ عن أي حالة وفاة أو قتل بمواصفاته
ولا هو في المستشفيات التي بحثوا عنه فيها، لذلك طلب منه وهو ذو الخبرة الكبيرة في تقصي أثره والبحث عنه علّه يجــده ويعيده إلى ذويــه.
إنطلق من فوره إلى بيت المفقود واستفسر من شقيقه عن بعض الأمور التي تخص المفقود ودونها في مخيلته، عرف أن الذي يبحث عنه قد كان كالقطط الجائعة الضَّالة لاتستقر في مكان، يتنقل من الحي الذي يقيم فيه إلى آخر، وان اكثر الناس في المنطقة تعرفه لذلك إستطاع أبو عدنان
أن يعرف آخر مكان شوهد فيه قبل فقدانه.
حين وطات قدماه سفح الجبل غمرته السعادة، هذا الشعور الذي كان يرافقه كلما وطئ أرضاً جديدة للبحث عن مطلوبين للعدالة وهو من المحظوظين القلائل الذين تثق بهم دوائر الشرطة وتتيح لهم مثل هـــذه الفرصة.
غير ان ما أزعجه هو ان المناطق المرتفعة الصخرية كالجبال قلّما يستطيع قصاص الأثر العثور على آثار أقدام أو دلائل ترشده إلى المطلوب، لذلك والحالة كهذه يتوجب على محسن القرشي أبو عدنان الإعتماد على فراسته وذكائه بالتقاط إي إشارة ودليل يظن المرء أن لاقيمة له ،قد يفيد
في إلتقاط بعض الخيوط التي تسير في إتجاه الطريق إلى المطلوب!
إذاً المهمة شاقة وصعبة يا أبو عدنان، ها أنت تواجبه الجبل متسلقاً، خدر ناعم لذيذ يداعب خلايا جسدك الملتصق بالرمال، الصخور تمتد أمامك، والسماء فوقك تملؤها أسراب الطيور الزاحفة نحو أعشاشها،أقسمت ألا تعود إلاَّ بصحبة المفقود مهما كانت الصعاب لأنك استطعت ان تقتفي
بعض آثاره التي قادتك إلى هذا الجبل وهذا التعب الأليف المحبب لديك، لتسطّر مأثرة جديدة في سجلك الناصع.
ثلاثة أيام بلياليها وانت تنتقل من مكان إلى مكان، كغزالة تبحث عن إبنها الضال وتخاف عليه من أن تأكله الوحوش، هو الوعد الذي يذكرك دائماً بمحبة الناس، وعدك مع الحياة والصدق في زمن فقدنا فيه حتى محبة الأخ لأخيه!
مرّة ثانية كاد ينزلق، استطاع ان يجتاز إنحداراً شديداً يفضي إلى أخدود ملتوٍ، كانت الصخور الصغيرة تبدو وكأنها توشك أن تسقط عليه من على المنحدرات الحادة الإنكسار، ومن السماء كان يتدفق الهواء الحار، طائرٌ كبيريفرد جناحيه يحوم فوق فريسته وبسرعة البرق ينقض عليها
ثلاثة أيام وانت ترنو بعينيك نحو ذلك المجهول الذي ترك بعض أثره بين صخرتين في حضن الجبل الوعر، وعلى اغصان نتشة ترك لك مزقاً من دشداشته التي أعلمك بلونها أخوه.
تهللت تباشير الفرح لديك واقتربت من أن ترى الذي تبحث عنــه أمامك، قد يكون أمامك في مكان ما، من هــذا الجبل المقفهر الموحش، خلف أجمــة من النتش، أو صخرة إستعذبته رطوبتها، أو في كهف كان ملاذاً للأولين من الوحوش وحر وصيف وبرد وشتاء، هُنا هو قريب منك
فقد يفاجئك أو تفاجئه لافرق المهم أن تعثــر عليه وتراه بأم عينيك. تتنفس الصعداء حين تناهى إلى سمعك صوت كعويل قادم من البعيد، إقتربت من مصدر الصوت، إنتعش الأمل لديك برؤيته وإعادته إلى أهلــه، اختلط عليك الأمر في البداية، ظننت أنه حيوان يحتضر! علا الصوت
فأصبح أكثر وضوحاً إنــه صادر عن إنسان ، نعم انه يبكي يستغيث لكنه لا يستطيع ان يعبر عن ذلك إلا بالعويل، اقتربت من مصدر الصوت أصبحت أمامه تماماً! هالكَ ما رأيت إنها خدوش وكدمات وقيء على ملابسه، ارتجف حين رآك إلتصق بالأرض، إقتربت منه ربَّتَ على كتفه،
هدأت من روعــه، ارتمــى على صدرك ونشج كطفل إلتقى بأمّـــه بعد ضياع.
لم يفاجأ الضابط عندما دخل أبو عدنان مصطحباً معه المفقود الذي كانوا يبحثون عنه، ولكن المفاجأة كانت الهيـئـة التي كان عليها أبو عدنان والمفقود؟! من إنهاك واضح على وجهيهما، وثياب رثــّة ، وتلك الخدوش والكدمات التي بدت على المفقود.
ظنّ الضابط ان الرجل قد قاوم أبو عدنان وتعارك معــه قبل ان يجلبه إلى المخفـر لكن الدّهشــة كانت أكبر عندما علم أنــه كان هائماً على وجهه في جبال مكــة المــكرمـة وكيف استطاع أبو عدنان معرفة مكانه والوصول إليـه.
آخر تعديل علي خليل الشيخي يوم 08-22-2012 في 07:08 PM.
وأنقل لكِ تحيات الشيخ محسن القرشي " أبو عدنان" قاص الأثر الشهير في البلد الحرام..والذي شاركني التأليف في كتاب " حدود وأعلام البلد الحرام والمشاعر المقدسة" والذي ترجم للغة الإنجليزية .
وهو عضو سابق في هيئة النظر في المحاكم الشرعية، والعضو الدائم للجنة المكلفة بحدود وأعلام الحرم المكي الشريف والمشاعر المقدسة، وأحد أعيان ووجهاء قريش وأشراف الحجاز.
وقــدأجرت قناة العربية الإخبارية لقاء موسع معه وعلى الهواء مباشرة...و أيضاً الصحافة المحلية لقاءات وحوارت عديدة.
الفراسة مع الممارسة الطويلة تكسب صاحبها الخبرة ومعرفة الدقائق والتفاصيل الصغيرة التي لاينتبه إليها الإنسان العادي: وهذا مايميز قاص الأثر عن غيره، والمبدع في أي مكان وزمان.