منذ مئات السنين أرعدت (الصرخةُ).ولم يميز أهلُ القرية في ذلك الحين المكان الذي أتت منه.فبعضهم قال أنها نزلت من السماء،وبعضهم قال من باطن الأرض. فتصارعت الآراء،واختلطت الأحكام. لكن الحقيقة الماثلة أن أهل القرية فقدوا السمع من ساعتها.ولم يكتفوا بالصمم،بل توارثوه جيلاً بعد جيل.ومع جريان الأيام في أودية السنين،اختفت آذانهم،بعد أن تضاءلت شيئاً فشيئاً ،حتى صار المولودُ يُولد بلا أذنين.مكتفين بلغة الإيماءات وإشارات الكفوف .فتضاءلت ألسنتهم أيضاً، حتى اختفت هي الأخرى.وجرى الأمر على الحيوانات أيضاً.فلم تعد القرية تتنغَّم بتغريد العنادل ،ولا يشعرها بالزهو صهيل الأفراس ،أو يمنحها الرضا ثغاء الخراف.صاروا- أهل القرية- يحتفلون كلَّ سنة بعيد (الصرخة).حين تأتي ليلة ذكراها،يحتفلون ويعربدون ويرقصون بصمت ،ثم يضاجع الرجالُ النساء حتى الصباح،بعد أن ألزموا أنفسهم بهذا الطقس.
في صبيحة الذكرى السنوية لعيد الصرخة،تفاجأ (عازف الكمان) الداخل للقرية،حين سرقت انتباهه هرولة الرجال والنساء إلى حمامات السوق الكبيرة،يحمل على ظهره حقيبة كمانه،متوجهاً في طريقه صوب (غابة النغم) .حيث أخبره راو صدوق عن تلك الغابة .فقد ذاع في البقاع صيت الشجر الذي تعزف أغصانه،والطيور التي تناغمه بالنقر والإيقاع،والجداول التي تشكّل معه (الهارموني). فأقسم أن لا يمضي عام من عمره حتى تطأ قدماه أرضها،ويجسُّ سمعَه لحنُها.عازف الكمان وقف مشدوها حين أثار المشهد في قلبه الفضول. أستمر ماشياً على مهل يرقب الخطى المتعبة،والوجوه الذابلة..سأل العازف رجلاً مسرعاً فلم يجبه،ولما أدار الرجل للعازف ظهرَه، فغر العازف فاه ورفع حاجبيه حين رآه بلا أذنين!.(عجيب..!) تمتم العازف، ظل يبحث عن إنسان يملك أذناً ولكن عبثاً يحاول .وحين داهمه اليأس جلس على حجر عريض،وفي قلبه ألف سؤال.حتى أن الرغبة في مواصلة مسيره صوب غابة النغم قد اختفت فجأة، تأخذه وتأتي به فكرة المكوث أياماً في هذه القرية.ورغبة في إعلان نبوءة النغم على هؤلاء القوم.فتح سحّاب حقيبته،وطالعَ كمانه هامساً
كن جاهزاً يا صديقي).
***
(سأحاول)...همس عازف الكمان في نفسه مصمماً ، وفاء منه للموسيقى،وتصديقاً لما اعتقده من لذة النغم ولذة الإنصات. كان على الدوام ،وطوال الأسابيع التي قضاها في القرية،يحاول إقناعهم بضرورة السمع . كان عازف الكمان يكرر بين أصدقائه (الموسيقى هي الدين الوحيد الذي آمن به كل سكّان الأرض بلا أنبياء). حتى أتعبته لغة الإشارة،ونال من تصميمه عنادُ أهل القرية وجفاؤهم. وكان يحدث نفسه بين الحين والحين(كيف للأصابع أن تحلَّ محل اللسان؟.هل نستطيع اختصار الأحاسيس وآلاف الكلمات بعشرة أصابع ؟) .حتى طرقت باب قلبه فكرة بِكر.إذ قرَّر التوجه إلى الطبيعة .. تعمَّد عازف الكمان العزف في وضح النهار.عزف في ظهيرة ساطعة لحن حزنٍ عميق،فاكفهرَّت السماء،وتلبّدت غيومٌ حمر. ثم عاد وعزف لحناً آخر مُبهجاً فتهلَّلت السماء ،وأشرقت الشمسُ ضاحكة.ثم عاد وعزف لحناً مخيفاً ،غامضاً،فتحزَّبَ سحابٌ رماديّ،وأسرعت الظلمة منتشرة ،وهرول النور إلى مغارة عميقة..الأرض عطشى ،الفلاحون في القرية يشكون اليباب والجدب.فساق إليهم عازفُ الكمان غيوماً حبلى بالمطر. في ليلة ماطرة حين تناغم الرعدُ والكمانُ . فارتوت نخلةٌ مصفرّة الوجه تحكي المَ الفراق،والرعدُ والكمانُ في حوار.ما همهما بحلقة الأطفال وإشارات النسوة ولعنات المتأنقين.لم ينصت لهما إلّا العازف والطبيعة..لكن أهل القرية لم يزدادوا إلّا عناداً وصمتاً.بل شهَّروا به،ولعنوه ،وقذفوه بالتهم.فمنهم من اتهمه بالسحر،ومنهم من الصق به طينة البدعة،ومنهم من البسه ثوب الجنون.
(الصديق يؤثر في قلب صديقه،و"الصاحب ساحب" كما يُقال) هكذا حدث العازف نفسه، بعد فشله في إقناع أهل القرية في محاولته السابقة.قرَّر التوجه إلى صديق البشر الأزلي(الحيوانات)، لإقناعها بالتخلي عن صممها،واللحاق بسفينة الموسيقى.مُمنّياً نفسه بالنصر في هذه المغامرة. (البشرُلا ينقادون بسهولة ،لكن الحيوان يطيع،البشر لا يتخلون عن اعتيادهم ،والحيوان يتأقلم،يصغي،يقلد رضاءً لرغبة سائسيه) هكذا كان يفكر مقتنعاً بالمحاولة الجديدة ونجاحها.أقبل إلى الطيور...غرد بكمانه فاستغربت اليمامات،وجفلت العصافيرُ والبلابل،ظنَّاً أن في حركاته على (القوس) إشارة خطر،أو إنذار بالشر. الكلاب والقطط والغزلان والأغنام وأنواع الماشية شكَّلت حوله دائرة وهي تراقب تموجه ،تقاسيمه،تنغيمه .فقد آلف عزفه بين الغرماء،ومازج بين أنفس الأعداء بالمخالطة المحببة،حتى أقبلت الوحوش أيضاً تراقب حركاته في العزف الباهرة،كالذئاب والثعالب وبنات آوى !. سكن لهاث الكلاب،توقف صفق أجنحة الطيور،خنسَت أعين الذئاب.فنبتت لحوم صغيرة على جانبيّ الرأس في كل ضيف من الحيوانات.وعلى أفواهها المستغربة.لحوم على شكل قطع مدورة ،تحولت إلى صواوين،تكبر،تكبر،تكبر.وألسنة ،تطول ،تطول،تطول.تحركت الريح،ورقصت الأشجار،حين ملأ الفضاء تغريد البلابل ،وزقزقة العصافير،ونباح الكلاب،وعواء الذئاب،وثغاء الماشية.أعلى وأعلى.والعازف مسترسل في العزف.حتى اكتملت اوركسترا كبيرة،بقيادة عازف الكمان،الذي هطلت أمطار دموعه،وهو يرقب،تموج النغم والتلذذ به بادياً على وجوه الحيوانات، التي أفصحت،وصرخت،وانقطع حبل صمتها الملتف على عنق القرية.
***
شعر عازف الكمان بالمضايقة.. بدأ أهل القرية بمحاصرته،تجويعه،إرهابه،طرده من سكناه الذي استأجره إلى اجل غير مسمى.لقد نثر الفتنة في قلوب حيواناتهم ؛فحصدوا التمرد.وأوقع الضغينة بينهم وبين أنهارهم،شمسهم،قمرهم،غيومهم، رياحهم،ليلهم،نهارهم.. لقد مرَّ عام كامل ألّا يوماً .فالليلة هي عيد (الصرخة) عند القرية،وقد أمروه أن يحزم حقيبة كمانه وأنغامه ويرحل بعيداً عن القرية.قبل أن تزورهم شمسُ صباح الغد.حيث سينشغلون الليلة بالعيد والاحتفال والمضاجعة،حتى الصباح،بعد عام كامل من الشغف؛احتراماً لعيد (الصرخة). رتَّب حاجياته،واستعدَّ لمواصلة رحلته التي أوقفها قبل سنة في هذه القرية التي عشقت الصمت،وولهت بالكتمان وكبت النغم.استعد للتحليق في سماء الإنصات صوب (غابة النغم) هناك حيث تنتظره الأشجار الموسيقية،والسواقي المُنغِمة.لكنه تمهل بينه وبين نفسه مفكراً: (القرية لا تريد رؤيتي بعد الآن ،فصار لزوماً المضيَّ نحو مقصدي الأول.ولكن قبل كل شيء عليَّ انجاز شيئاً أخير).
في تلك الليلة - ذكرى الصرخة- حين توارى أهل القرية في منازلهم.غفا الأطفال ،تجهَّزت النساء،تنحنح الرجال .فالليلة هي النافذة الوحيدة التي تدخل من خلالها اللذة،وتُقطف النشوة،ويعمُّ الاسترخاء ،بعد طول المضاجعة وعنفها.أضواء الغرف،أشارات التأوه، صرير الأجساد ،طقطقات الأسرة،كلها شواهد على ليلة هي الأكثر شبقاً في العالم.في تلك الأثناء،كان عازف الكمان يجول في الظلمة وهو يعزف بكمانه لحناً كان يحفظه ولم يعزفه أبداً ،ومن المتفق بينه وبين نفسه أن يعزفه للمرة الاولى في غابة النغم. صار يجول بين المنازل وفي الدهاليز مغمض العينين ،يسير على هدي خفي .بالصدفة سمعت الطيور في الوكنات صوت الكمان فهبت صوبه.الحيوانات التي تسير على أربع أتت من كل صوب عبر مداخل القرية.من الحقول والغابات والمزارع والمراعي والأجمات . فتداخلت على شكل فصيل منتظم خلف العازف.تسير مبتهجة بنغمه السحري الذي علا وملأ الفضاء بلحن شجين.القمر والنجوم لم يتردَّدوا في الرقص والبهجة .وتناقلت النجوم الخبر ،حتى وصل إلى الشمس في الجهة الأخرى من العالم،حين كانت تمارس الإشراق ،فتأسفت وتأففت، لأنها فوَّتت فرصة الاستماع إلى كونشرتو العازف .على الجهة الأخرى- داخل الغرف- كان الرجال يضخون فحولتهم ،وسرَّ بقاء بني جنسهم ،إلى أجواف النساء اللواتي تراخت أعضاؤهن ،وتصبب عرقهن،وتهللت أساريرهن.فكنَّ يتبادلن مع أزواجهن الهدايا.هم يمنحوهن اعزَّ ما يملكن وهنَّ يمنحنهم ألذَّ ما يشعرون. هم منهمكون وجادون في أن يخرج جيلاً يشبههم في هذه الليلة .وعازف الكمان جادٌّ أيضاً في إكمال عزفه ،وإلقاء ألحانه.وحين أزف الوقت ،وحانت اللحظة .انطلق العازف مغادراً القرية من الباب التي دخل منها.خرج من القرية ملتحفاً ظلام الكون،ونسائم الغابة المجاورة ،منطلقاً صوب(غابة النغم)،تاركاً خلفه الغرف التي بدأت تطفئ أضواءها بالتدريج.بعد أن خفت تأوه الأسرة ،وصرير الأجسام العارية.تاركاً خلفه مشهد القرية وهي تغفو.
في صباح اليوم التالي،جاءت الشمس مهرولة على غير عادتها،حيث أثار ولهها تغريد البلابلُ،وزقزقة الطيور،وأنغام السواقي ،وموسيقى الريح ،وأجراس الأثمار المعلقة كالنواقيس على الشجر.صحت القرية من غفوتها، وحين لم تجد العازف ،ارتاح أهلها من ذلك الغريب،وتجدد يومهم بهاء وصار عيدهم عيدين (عيد الصرخة وعيد طرد العازف).هرع الرجال والنساء إلى الحمامات،عالقة في أذهانهم دقائق الأمس.يتبادلون بكلمات إيمائية حكاياتٍ عن بطولاتهم في بواطن الغرف.النساء تجمعن أفواجاً ودلفن إلى الحمامات،تتفاخر كلُّ واحدة على صاحبتها بأنها الأفضل،والأجمل ،والأكثر شبقاً وراحة في المضاجعة. لم يعلمنّ ...لم يتوقّعن أن أرحامهنّ تحمل أجنة، ستنبت بعد أشهر على رؤوسها صواوينُ صغيرات.