لاشك أن أيام الجامعة من أفضل الأوقات التى يمر بها الانسان في حياته.. ربما لكونها مرحلة التتويج العلمي أو قاعدة الانطلاق أو تقطة ما قبل البداية الحقيقية أو .. أو ..
وربما لأنها تمثل نقلة نوعية مفاجأة في سن حرجة جدا ..
هذه القفزة قد تتمثل - في جانب منها - في الخروج عن حياة الرتابة التى اعتادها المرء في المراحل الدراسية السابقة ( حضور الصباح بوقت محدد - طابور إلزامي - زي موحد - فصل ضيق بمقاعد مهبّبة -
جذع متقزم في فناء المدرسة لم يُكتب له أن يكون شجرة بسبب الأيدي العابثة التى تمنعه من الحياة كل يوم -
مدرس غِلِس لا سبيل للفكاك من حصته - مدرسة حامل ومصممة تشرح حتى قبيل آلام الولادة بساعات..
الأبلة نادية بتاعة المواد الفلسفية وكلامها اللى هي أصلا مش بتفهم معظمه ..
الأستاذ حورس ( أصله محروس ) الذي يدخل علينا واجما حزينا مقطب الجبين
ثم ينظر يمينا فيبتسم ( ناحية الزميلات )
وينظر يسارا فيبتئس (ناحيتنا طبعا)
ثم يبصق كمية لابأس بها من لعابه
ويقول بقرف ( أشكال وسخة عالصبح ) ..
وحاجات كتيرة تانية........
أما المرحلة الجامعية فعلى النقيض من ذلك تماما
تتلقى علمك من علماء بعضهم مشهورين في مجالاتهم .. أسماؤهم على جلدة الكتاب الذي تحوزه ..
يحترمون عقلك على الطريقة الأوربية ، ويشعرونك بأهميتك المزعومة الكبيرة ، والتي* لاتبلغها بقدراتك الناشئة* المتواضعة جدا ..
تناقشهم فيردون عليك بابتسامة عريضة ملونة ، كابتسامة الياهو الصفراء..
أضف إلى ذلك انفلاتك من كل قيد اجتماعي وأنه لا رقيب عليك داخل ما يسمونه بالحرم الجامعي ..
تفعل ما تشاء.. يتحكم فيك أصلك وطبعك ومعدنك .. واشتهاءاتك
الانفلات هو عنوان الحياة الغالب داخل اروقة الجامعة ..
كما أن المدرج عبارة عن عروض متصلة سواء في الملبس أو تسريحة الشعر ..أو شكل الكراسات والأجندات والمفكرات والأقلام والسيارات وحتى في العطور* ..وأحيانا الطعام .. لم يكن لدي بالطبع ما أنافس به..
طبعا دا بالنسبة لكلية التجارة جامعة المنصورة ..
وللجامعة هذه شهرة طاغية في بر مصر من حيث الذوق والرقة والجمال
ويعلل البعض هذه الشهرة بما يرويه الناس من أن أهل المنصورة لما أسروا لويس التاسع ( تقريبا دا رقمه )
وهزموا حملته ، سبوا نساء الفرنجة وتزوجو ا منهن فحسنوا بذلك السلالة المصرية فى هذه البقعة الخضراء( هذه الرواية مهذبة إلى حد ما ) .. ويمكن اعتباركلية التجارة هى خير ما يمثل الجامعة في هذه الأمور .
.لذلك كانوا يطلقون عليها ( كلية الكعب العالي ) وقدري أننى التحقت بها دون دراية عن أحوالها ..
وعلى الرغم من حياة اللامبالاة التى كنت أحياها آنذاك والتى تستنيم كثيرا للجو السابق ذكره
إلا أنني لم أستطع أبدا أن أتناول الحياة في هذه المرحلة كما يفعل أقراني
فكانت فترة الجامعة من أسوأ وأتعس الفترات التى مررت بها ولا أحب أن تعود مرة أخرى ..
قررت - كنوع من التمرد على أى حاجة - أن أكون إنسانا ملتزما متزنا هادئا ..
رغم عدم وجود أي خطوط عريضة في ذهني تصلح لأن تكون طريقا أسلكه لمثل هذه السلوكيات الجديدة .
ألقيت بأخر علبة سجائر من نافذة غرفتي .. وأرحت نفسي و انضممت إلى أسرة الفجر ذات الشعبية الواسعة والانتشار العريض الجارف
وهي الأسرة التى يسمك بخيوطها الأستاذ الراحل المؤسس- رحمه الله -
ولأنني كنت خطاطا فقد اشتهرت سريعا جدا بسبب لوحاتي في الدعاية والمعارض داخل الجامعة ..
حسيت شوية إنني مهم جدا .. وعشت في الدور .
.ولما وجد قادة الأسرة هذا الولاء والتفاني مني رشحوني لعضوية المجال الرياضي في اتحاد الطلبة .. رغم مقتي الشديد لصفحة الرياضة باي جريدة احوزها
قلت والله ولعبت يازهر ..
قبل موعد الانتخابات بأيام يسيرة بدأت الدعاية وطبعا كنت ارسم لنفسي - في مخيلتي -تصميمات رائعة .. ولوحات جميلة ملونة.. وقبل أن انتقل من مرحلة العزم والتصميم الى مرحلة الواقع الملموس
فوجئت أن معي زميل -موالٍ- في الأسرة ، مرشح هو الأخر للنشاط الرياضي ، بل وطلبوا منى - أمرا لافضلا - أن أبدأ بعمل اللوحات الخاصة به ..
قلت ومالو (كل تأخيرة وفيها خيرة) ..
اتأخرت كتير حتى قبيل إجراء الانتخابات بساعة فوجئت بطلبهم أن أعلن إنسحابي ليفوز زميلي بالتزكية ...
الغريب أنني لم أنسحب لوحدي .. لأن تقريبا معظم اللى أعرفهم كانوا متلى كده مرشحيبن مزيفيين لنفس النشاط
واكتمل بعددهم النصاب المحدد للترشح من قبل إدارة الكلية
وانسحابنا -المخطط له بعناية - يعني بالضرورة فوز زميلنا بالتزكية دون الدخول في مهاترات مع مننافسين محتملين من الاتجاهات الأخرى..
وكان هذا أول درس ماكر تعلمته في السياسة .. قبل أن التحق - لاحقا - بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية .. وان أصبح معتقلا سياسيا شكلا ووصفا
وما زالت هذه التفرقات قائمة إلى يومنا هذا بألوانها المتعددة
أعان الله قلبك أيها القدير
من الجيد أن لا يدوم الحال على ما هو عليه وتمضي الأيام بحلوها ومرّها
لتبقى الذكريات ولفحاتها المثيرة للشجن
لقلبك السعادة