النصّ الأوفى في قصيدة المنفى
نحاول أن نقدّم هذه القراءة ونحلق في فضاء قصيدة المنفى للشاعر العربي الكبير
الأستاذ / صبحي ياسين ..
العنوان :
عنوان القصيدة ( المنفى ) ، استقاه الشاعر من تجربة ذاتية ، وترك َللعنوان دلالات مفتوحة ، فهل يقصد بالمنفى البعد القسري عن الوطن / ام الحبيبة / أم هو نوع من أشد أنواع النفي وهو نفي الذات ...
مدخل :
يرسم لنا الشاعر مسرحا لأحداث قصيدته ، ويقدم لنا صوت أشخاص وحوار ٍ مبتور ٍ معهم لم يشأ أن يُظهره كلّه ، ولكن اكتفي بتقديم الجزء الذي استهلّ فيه قصيدته :
المطلع :
قالوا : حبيبك َخلف البحـــر منْفـــاه ُ
قلتُ : الحبيبُ هُنا في الصدر سُكناه ُ
هنا نلاحظ أن الشاعر قدّم لنا قول الأشخاص الذين دار الحوارُ بينه وبينهم ، فأخبروه أن محبوب الشاعر هناك خلف البحر بعيدا عن مكانه الطبيعي ، والبحر مفردة دلالية ترمي للبعد وطول المسافة ...
لكنّ الشاعر لم يأت بالجواب في عجز البيت عَبَثا ً ، فكان بإمكانه وهو الشاعر المطبوع الذي تسير القصيدة طوع أمره ، أن يسترسل في هذه الجزئية ثمّ يأتينا بالجواب في أبيات لاحقة ، لكنّ الجواب في ذات البيت وفي عجزه ، جاء تعبير وتأكيدا على المكانة القريبة التي يقيم فيها محبوبه ، فمكانه القلب الساكن بين الضلوع وأشار له بالصدر ..
ربما أراد الشاعر في ردّه عليهم ، أن يؤكد َ مدى تعلقه وقرب الحبيب من وجدانه وذاته ، ولا يخفى على القاريء الفطن أن الأشخاص الذين يحاورهم الشاعر هم أشخاص وهميون وليس بالضرورة أن يكون لهم وجود حقيقي ..فهم أشبه بخطاب الشاعر العربي لخليليه في رحلته في الصحراء ، حيث كان الشاعر العربي يلجأ لرسم شخص الخليل الوهمي ليبعث الأنس في النفس لما للوحدة وغربة الرحلة من وحشة .
ثم ينتقل للبيت الثاني وفيه يُعمّق الصورة التي استهلّ بها مطلع قصيدته ،
عَيْنايَ تُبصرُهُ في دار غُربته ِ
كذاك َتُبْصرني في البعد عيْناه ُ
وهنا تبدو صورة المنفى / المحبوب أكثر وضوحا وتجليا ً ، فالمحبوب أنثى ، ونحن هنا في معرض قصيدة وجدانية ...
وعيْناي : هنا تأتي بمعنى القلب ، فالشاعر لا يمكنه أن يرى المحبوب الساكن في المنفي في مكن بعيد كما وصفوه خلف البحر ، لكن العاشق يستطيع أن يرى بقلبه ما لا تراه عيناه ...وهنا يُقدم الشاعر فنّا من فنون البيان حيث لجأ لأسلوب القلب ، فقد قَلَبَ الصدر وأنشأ منه عجزا ً :
كذلك تبصرني في البُعد عيْناه
وهو فن بديع أحسن توظيفه في البيت ، زيادة في تعميق الصورة الجميلة التي يرسمها .
يوم الوداع تمكّن َ من فمي فمه
كما تمّـــكن من خـــديّ كفّـــاه
هنا نتوقف ...
يوم الوداع :
نتذكر قول المتنبي ( حُشاشة نفس ٍ ودّعت ْ يوم ودّعوا ...فلم أدْرِ أيّ الظاعنين أشيّعُ)
وهنا الشاعر يتذكر بحرقة مواسيا نفسه ، أنه حظي بقبلة ٍ حميمية ، فالتصق ثغره بثغرها ، وامتزج رضابها بريقه ، يا لها من صورة فوتوغرافية أجاد الشاعر في التقاطها بحنكة عالية دون أن تحمل الصورة ابتذالا ، والذي يرفع الإبتذال عن هذه الصورة ، إبداع الشاعر في وصف القبلة في لحظة الوداع ..فكم نشاهد في لحظات السفر عناقا وقُبلا بين رجال ونساء لا ننتبه لخصوصية القبلة ..بينما لو شاهدنا أنثى ورجل يتبادلان القبل في قطار او حافلة او متنزه فإن الصوة تلفت انتباهنا ...
رسم القبلة التي تمكن منها وفاز بها ، وكأنّه كان يتربص الظفر بها ..فقد تمكنّ ..أي أنه كان يخطط لهذه القبلة ...وهل هذا الشوق كان حبيسَ وجدانه ؟
هل كان شعورا أحاديا ؟
بالتأكيد الجواب لا ..فعجز البيت يؤكد أنها ما أن قبّلها من ثغرها حتى وجد خدّيه بين كفيّها ...لتتضح صورة العناق ورسم القبلة في مشهد رومانسي مدهش .
وبما أن العناق كان في مشهد الوداع ، فلا بدّ للدمع أن يهمي على الخدود ، والأنفاس التي تنبعث من المودّع والحبيبة تكون فيها حرارة وسخونة بسبب الإنفعال ، الإنفعال الذي يسببه الفراق الحتمي والبعاد القاسي ...
وثمّة رعشة تخترق الأوصال سببها التصاق الحبيبين ، فالعناق عناق العاشق الكمد ..
تحدّر َ الدمع ُوالأنفاسُ ساخنة ٌ
ورعشةُ العشق تغشاني وتغشاهُ
هي مشاعر تفيض من العاشقين ، توحدّا عناقا خوفا من الفراق القادم لا محالة ...
أكفكفُ الدمع َ عن خديّه ملتهبا ً
فيزفر الآه حرّى بعدها ــ آه ُ ــ
كان يشعر بحرارة الدمع وهو يمسحه عن الخدود ...ويشعر بأنفاسها الخارجة ( زفير ) تتخللها تنهيدات ملتهبة متعاقبة ...
ثغرها كان مشتاقا لديمومة هذه القبلة ، لكنها كانت قبلة على وجع ٍمن فراق حان ، ووداع قادم ...وحتى خدودها كان لونها أحمرا ً خجلا ً وشوقا ورهبة من الفراق ..
توهجّ الثغرُ مشتاقا ً على وجع ٍ
كما تورّد بين يديّ كفّــــــــــاه ُ
فوجهها بين كفيه ، وثغره ملتصقا بثغرها ، أنفاسها حرّى ...ورعشة العشق تغشاه وتغشاها ..وحالة من الإرتباك تخترق الأوصال من انقطاع القبلة تمهيدا للوداع ..
أتذكر مجددا قول المتنبي :
أركائب الأحباب إن الأدمعا ..........
هنا نتوقف في تقديم هذا الجزء من قراءة هذه القصيدة الباذخة ..قصيدة تنتمي لشاعر مبدع من طينة الكبار ، شاعر نفخر أنه من رموز النبع المتميزين بشاعريته المتدفقة ، وقدرته المذهلة على التعبير ، وبراعته المدهشة في التصوير ...
على أمل اللقاء بحول الله في الجزء التالي ..حيث تناولنا مشهد التحضير للوداع في يوم الفراق ، بينما سنرة ما بعد الوداع والحالة النفسية التي رسمها الشاعر لبطل قصيدته ...
الوليد