ثم كرر المحاولة .. لم ييأس .. لم يكل .. استدرجني إلى ملعبه بحكمة أعوامه الأربعين، فصار كلانا نسيجا متميزا للعبة مبتكرة لم تتوضح نتائجها إلا عند الوصول إلى النقطة التي انطلقنا منها .
كان اسمه يتردد كنغمة خافتة لم تسترع انتباهي ، رغم الصخب الذي أحدثته في مسامع الآخرين ، لم يهمني أمره ذات يوم ، وتكرار ترديد اسمه لم يعن لي سوى أنه رجل كما باقي الرجال يلهث وراء النزوات .
ربما أكون متحاملة على بعض الرجال ، وهذا لم يأت من فراغ ، بل نتيجة لاتفاقهم غير المعلن على الإستهانة بكيان المرأة وطاقاتها ، والتعامل معها كمحض جسد لاغير. وهذا ما أوصلني إلى هذه الحالة من الإستياء والنفور .
منذ وقت ليس بالقريب ، صرت أدرك أن التوحد مع الذات يمنح المرأة قوة مزدوجة تمكنها من التصدي للمخاطر التي تتعقبها بإصرار ، وأحد تلك المخاطر ، هي الشباك المنصوبة التي أعدت لها بعناية كي تنزلق قدمها إليها في وضح النهار .
قد أبدو حذرة .. متأهبة للإنقضاض على من تسول له نفسه التلاعب بعواطفي أو الإستهانة بكياني .. بكرامتي ، أنا كذلك بالفعل ، ليس لأنني أكتشفت ذاتي فتوحدت معه وحسب ، بل لأنني وقعت أكثر من مرة في تلك الفخاخ ، فاكتسبت مناعة وحصانة ضد صانعيها .
ليس عسيرا على امرأة أربعينية مثلي أن تعيش في منأى عن عالم الرجال ، لأنني قررت أن أكتفي بانكساراتي ، وأن أترفع وأسمو فوق كل الغرائز التي تجعلني أقل شأنا مما أنا عليه ، وإذا ماصرخت مشاعري جزعة من الخواء الذي يعتريها ذكرتها بما آلت إليه جراء اندفاعها من جانب ، وعدم نفاذ بصيرتي من جانب آخر ، فتستكين وتنام في خنوع .
هكذا دربت نفسي وأجبرتها على البقاء وحيدة .. بعيدة .. إلى أن .. إلى أن ماذا ؟ تلك هي البداية .
ظهر بكل عنفوانه .. بشموخه وجبروته ، رافعا راية الحب ، ضغط على مشاعري .. ضغط .. ضغط .. ضغط ، دون جدوى .
لم يرني سوى مرة واحدة ، وهل تكفي تلك المرة لإصابته بهذا الوله الجنوني الذي يدعيه ؟!
أغلقت عليه كل المنافذ إلا واحدا تمكن أن يتسلل من خلاله إلي ، أجرى معي عدة مكالمات ولم أستجب ، ظل يصر وظللت أرفض ، ألقى على سمعي كماً من الكلمات التي يرق لها قلب الحجر ، لكنني قاتلت مشاعري بضراوة ، مما دفعه إلى تغيير استراتيجيته .
ـــ أن تتسربي من يدي كما الماء فهذا أمر مستحيل ، لأنني لا أنوي التفريط فيك، حتى لو اقتضى الأمر أن أحارب الدنيا من أجلك .
ـــ على رسلك .. أنت لم ترني إلا مرة واحدة !
ـــ وما المانع أن أراك ثانية وثالثة .
ـــ آه .. تراني مرات ومرات ، فتتعمق العلاقة ثم تتجرأ وتطلب ما ليس لك به حق أليس كذلك ؟
ـــ ماذا تقصدين ؟
ـــ أظنك فهمت ، فلا تدع الأخلاق .
ـــ أنت تظلمينني والله ، وسيأتي يوما أثبت لك حسن نيتي .
ـــ أرجوك دعني وشأني .
ـــ انتظري .. سأطرح عليك فكرة .
ـــ فكرة ؟!
ـــ بما أنك لا تعرفينني بالقدر الكافي مما يجعلك تشكين في أمري وتوجهين لي الإتهامات، مارأيك في أن نلعب لعبة ، نتعرف من خلالها على بعضنا ، بأسلوب جديد غير مألوف .
ـــ لم أفهم شيئا مما ذكرت ، ثم أية لعبة هذه التي تريدني أن ألعبها معك ؟
ـــ إنها لعبة من نوع خاص ، إسلوب جديد في التعامل مع الحياة ، أليس للحياة قانون مفروض علينا وزمن يدور رغما عنا ، نحن سنقلب الموازين ونضع قانونا خاصا بنا ، لفترة معلومة ومحددة .
ـــ وما الهدف من ذلك ؟
ـــ الهدف هو كما قلت لك ، أن يتعرف كل منا على الآخر ، بطريقة مختلفة .
ـــ كيف ؟
ـــ أنت ترفضينني لأن المرأة ذات الأعوام الأربعين التي تمثلينها هي التي قررت ذلك ، كونها تخاف التجربة ، تخشى الفشل في هذه المرحلة من العمر ، لكن الطفلة التي تسكنك لها رأي آخر بالتأكيد .
ـــ أنا لا أفهمك .
ـــ في داخل كل منا شخصيتان متناقضتان ، إحداهما عاقلة ، متزنة ، والأخرى مندفعة، مليئة بالحيوية ، لاتخضع للقوانين التي تعتمدها الأولى ، والحقيقة أن اللعبة لاتعتمد علينا ، وإنما على طفلينا .
ـــ أنت لاتطرح فكرة .. أنت تطرح لغزا !!
ـــ ركزي معي ، نحن الآن في السنة الرابعة بعد الألفين ، عمر كل منا أربعون عاما ، من هنا سوف ننطلق ، لكن في الاتجاه المعاكس ، أي أننا سنعود بالزمن إلى الوراء ، وسوف نتوقف عند العام ألف وتسعمائة وأربعة وسبعون ،عندها سيكون عمر كل منا عشر سنوات ،هنا سيطلق كل منا الطفل الذي بداخله ، وسوف ندع الطفلين يتعرفان على بعضهما بأسلوبهما الخاص ودون تدخل منا ،سأنسحب أنا ، وستنسحبين أنت أيضا ، ومن هذه النقطة بالتحديد سينطلق الإثنان إلى الأمام هذه المرة ، وكل يوم يمر عليهما يعد سنة ، وبعد مرور ثلاثين يوماً ، سيكونان قد أتما سنواتهما الأربعين .
حينذاك سوف تكتمل اللعبة وسيكون القرار لك ، أرجو أن تضعي في عين الاعتبار أن مصيرنا نحن الأربع سيكون مرهونا بإشارة منك ، ها .. مارأيك بالفكرة ؟
ـــ لابأس بها ، لكني أريد مزيدا من التوضيح .
ـــ في اللحظة التي سنطلق العنان فيها للطفلين لايحق لنا الظهور ، وإذا تطلب الأمر ذلك فلا ينبغي لأي منا أن يأخذ موقعا بديلا للطفل في أي حال من الأحوال ، ولكن بإمكان كل منا أن يكون بمثابة ولي أمر للطفل ليس إلا ، أريد أن أذكرك بأن قانون اللعبة لايسمح بالانسحاب، وأن هنالك وعد شرف لتوثيق الاتفاق ، فهل أنت مستعدة؟
ـــ مستعدة .
ـــ فلنردد القسم .
تحمست للفكرة .. انبهرت بها .. أعجبتني ، رددت القسم .. أطلقت الفتاة ذات الأعوام العشر التي تغفو في داخلي وأطلق هو فتاه .
لماذا قبلت بالفكرة ؟ أسباب كثيرة جعلتني أتقبلها ، لأنه أيقظ بفكرته الطفلة التي ترقد في داخلي ، جعلها تقفز فرحة بالعودة إلى الماضي ، وربما تكون هي التي وافقت على الفكرة ولست أنا ، كما أن هنالك سبباً آخر ، هو رغبتي في تحدي قانون الزمن والحياة ولو بلعبة وهمية .
إنطلق الإثنان في مباراة جادة مع الزمن ، عليهما أن يدركا الهدف قبل انتهاء الوقت المقرر ،رسمت الفتاة ملامح واضحة لشخصية فتاها ، إستهوتها اللعبة .. إستغرقتها منحتها كل وقتها .
لم يبرح أحدهما الآخر إلا في ساعات الليل المتأخرة ، ثم يواصلان الحديث عبر الهاتف، لم ينالا من النوم إلا القسط اليسير ، كانت أيامهما زاخرة بالأحداث .
قاد كل منهما الآخر إلى الأماكن التي شهدت تاريخهما الطفولي ، تقمصا الحالة التي كانا عليها إبان تلك الفترة ، عاشا المرحلة كما ينبغي ، متناسين أنهما يدوران في فلك لعبة وهمية ليس إلا .
لم تكن أيامهما كلها على مايرام ، فقد دارت مشاجرات ومعارك ، كما أي طفلين ، تخاصما .. تصالحا .. توعد كل منهما الآخر بالمقاطعة وفك الإرتباط .
كادت اللعبة أن تنتهي حين دخل الفتى مرحلة المراهقة ، وذلك بسبب تهوره وسخونة مشاعره ، فقد حاول تقبيل الفتاة ، لكنها صفعته ثم شكته لولي أمره ، الذي تعهد لها بعدم تكرار تلك الفعلة المشينة .
كل يوم يمر يعد مرحلة جديدة في حياتهما ، كانا يكبران بحكم الإتفاق ، أما مشاعرهما فكانت تكبر بحكم التفاعل والتعايش .
ماذا حدث ، أتراني أحببته ؟ أنا كذلك بالفعل ، لقد منحني فرصة لاستعادة طفولتي التي لم أعشها كما عاشها أقراني ، لأني تزوجت قبل أن تكتمل ملامح انوثتي ، كثيرا ماشعرت بالإنتهاك ، فقد أنتهكت حرمة جسدي دون إرادة مني ، وإنما بإرادة أهلي الذين أرغموني على الزواج من رجل لم أكن أعرف عنه سوى اسمه ، وعندما رحل صار جسدي هو المملكة التي لايحق لأحد الإقتراب منها .
دارت عجلة الزمن كعادتها سريعا ، كبرنا بسرعة أيضا ، كنا نقتات على رحيق الحب الروحي ، وقبل الوصول إلى النقطة التي انطلقنا منها ، استعادت الفتاة وعيها الأربعيني ، فتمردت على اللعبة .. عليه .. على نفسها .. على العالم كله .
ما الذي دهاني ؟ كيف تمكن هذا الرجل أن يخترق حياتي .. أن يخترقني بلعبة وهمية سلبتني وعيي وإرادتي ، كان ينبغي أن أنتبه إلى خطورة اللعبة وتداعياتها ، لقد أعادني بلعبته هذه إلى طفلة بلا عقل ، بلا بصيرة ، حتى يتمكن مني .. من جسدي.. جسدي الذي لن أسمح أن يمتلكه أحد سواي .
ـــ أنت ماكر .
ـــ أنت ظالمة .
ـــ أشهد بأنك نجحت بإيهامي وإيقاعي في الفخ الذي حرصت ألا أقع فيه .
ـــ أي فخ هذا الذي تتحدثين عنه ؟ أما زلت تظنين بأنني محض رجل تافه لاتحركه سوى غرائزه ؟ لا والله أنا لست كذلك ، ثم إنني أحببتك بكل تفاصيلك، أحببت جوهرك، كيانك ، عقلك ، الطفلة التي في داخلك ، حتى جسدك أحببته لأنه يحتوي كل ماذكرته .
ـــ اسكت أرجوك .
ـــ لماذا تخافين على جسدك إلى هذا الحد ؟ لماذا تفرضين عليه القيود ؟ ألست امرأة؟
ـــ إبتعد عني أرجوك .
حقا .. ألست امرأة ؟ أما آن الأوان للإذعان إلى رغباتي المكبوتة ، كثيرا ماشعرت بمساماتي تزفر نارا لمجرد أني أجلس بالقرب منه ، لماذا أصعب الأمور ؟ لماذا أعقدها رغم أنه طلبني للزواج .
طغى غضبي على كل ماشعرت به حياله ، قررت الهرب ، واكتفيت بهذا القدر من التجربة .
جاءني صوته محزونا ، راجيا ، طالبا الرحمة والكف عن العناد ، بكى .. توسل .. إتهمني بالقسوة ، لكني صممت أذني وأغلقت في وجهه كل الأبواب ، وفي آخر مكالمة أجراها معي ذكرته بأن القرار أصبح في يدي الآن كما هو متفق عليه ، لأن اللعبة قد انتهت بالفعل ، وعليه أن ينسحب كما انسحبت أنا ، لكنه لم يبك هذه المرة ، لم يتوسل بل طلب مني إطلاق سراح الطفلة التي أحبته ، ثم اقترح إعادة اللعبة من جديد.