الصَّنَمُ ... إذ دَأبواْ على إعْلاءِ شأنهِ والتبَاهي بهِ، فأخلصواْ لهُ في حالِ حضورهم بينَ يديهِ وَحين غيبته غايَة الإخلاص، وحفظواْ لهُ في أنفسهمْ قدراً كبيراً أفردوهُ لهُ ووقفوهُ عليهِ دُونَ سواهُ، ثمَّ ألبسوهُ في مخيلتهم رداءً مَا إن استحسَنوهُ لهُ حتى نسَجُوهُ بحَماسَةٍ منقطعةِ النظير وبعناية فائقة، وأحاطوه بسوادٍ توهموهُ هالة منْ نور، فأجرواْ ذكرهُ السَّيءَ على ألسنتهمْ، وقدْ حَسبواْ أنْ لا اطمِئنانَ لقلوبهم إلا بهِ ...
لمْ يكن هذا الذي يحتفونَ بهِ اليومَ ومنذ كانواْ أهلاً لأي حفاوة أو إقبال، ولمْ يكنْ في يوْم منَ الأيام جَديراً بأدنى اهتمَام مِنهمْ، إلا أنهمْ أيقظوهُ بعدمَا كانَ غارقاً في سُباتٍ عميق لا يَحفلُ بهِ أحدٌ، فمكنوهُ منْ فتح عينيه فيهم بالفتنة وَالضلالة وقدْ كانَ أعمَى، وأنطقوهُ بعدمَا كانَ أخرساً معقودَ اللسَان، فصَار لسَانهُ طلقاً يخبط فيهم بخبث كلماتهِ خبط عشواءَ، بلْ إنهم لمْ يكتفواْ لا بفعلهم هذا ولا بمبادرتهم تلكَ، إذ سرعَان مَا حثوهُ على السَّعي بينهم بمنكراتٍ شعْواءَ بعْدمَا كان كَسيحاً ...
أصْبحَ وأمسَى زمناً طويلاً بيتَ القصيدِ فِي سَائر مَا ينشده شعراؤهم من قصائد، ثمَّ أمسَى وأصبح عنواناً للخطابة في جَميع مَا يلقيه خطباؤهم من خطب، فاتخذوه في حلهم وترحالهم قبلة وقدوة لهم، ونصبوه قائداً وحكماً بينهم ...
مكث في ساحتهم سيداً مطاعاً يعيثون بما يمليه عليهم فساداً في أخلاقهم، وضلوا بمَا يوحي به إليهم غاية الضلال في كلِّ مَا يخرجُ من أفواههم من قولٍ، وفي سَائر مَا يصدر عنهم من صنيع، فمَا أفاقواْ من غفلتهم وجهلهم حتى استشرى الدَّاء فيهم، ولا أزالواْ غشاوةَ الغيِّ والطغيانِ عن أعينهمْ حتى أفضَواْ إلَى التهلكة، وَلا فكُّواْ القيود والأغلال التي أوثقواْ بهَا أنفسهُم منذ زمن طويلٍ حتى ذهبتْ ريحُهمْ ...