رقصــــــــــــــــــــــــــة؛ عزف على أوتار سولاف هلال في قصتها " رقصة
رقصــــــــــــــــــــــــــة
بقلم سامح عوده – فلسطين
عزف على أوتار سولاف هلال في قصتها " رقصة
"
تسطع كنور في صباح ربيعي هادئ، عندما تعانق خيوط الشمس، زهوراً، طريةً، قد نمت في أمكنةٍ لم يخطر ببالنا أن تستيقظَ تلك الأزهار في هذه الأمكنة، تتماوج مع نسائم الريح وهي تتمايلُ كموج رباني أهداه الله لنا، ليسكب البهجة في نفوسنا، هذا المشهد الذي يتكررُ كثيراً في أراضٍ حباها الله نعماً كثيرة، فتيقنُ أن طقوس البهجة قد بدأت تراقصُ الروح، بعودة الربيع، وانبعاث الحياة في الأرض من جديد بعد خريف جرد الكون من بعض جمالياته.
هكذا أنا، تستهويني النصوص الحالمة، فوجدتُ ذاتي قد نمى بداخلها " نرجس " و " دحنون " بعد أن أمعنتُ في قراءة قصة " رقصة " للكاتبة والقاصة العراقية سولاف هلال ، وللحق فلم تكن هذه القصة هي الأولى التي أقرؤها لها، لقد حالفني الحظ أن أقرأ عدداً من القصص لها متفرقة، أي لم تكن في مجموعة قصصية واحدة، وهذا الأمر قد يكون رائعاً لي إذ أن المجموعات القصصية في العادة تكون باللون الواحد نفسه، لأنها في أغلب الأحيان تأتي على شكل سلسلة، بعد قراءتي لعدد من أعمالها الأدبية .
وفي معظم الأعمال التي قرأتها عدتُ إليها أكثر من مرة، لأنها مرصوفة كعقد لؤلؤ جميل، لكل لؤلؤة فيه بريق خاص، تحتار بين هذه وتلك، فنفائس الأشياء، تبهرك ببيريقها، وجوهرها الثمين، والجوهر الأساس في القياس بين النفيس والخسيس، بمعنى أن تغوص إلى أعماق نص أصيل، ستجدُ في أعماقه وبين سطوره، أشياء لم تكن ببالك، جمال اللغة، وروعة الوصف، والحبكة التي تأسرك بجاذبيتها إلى عمق النص. معظم النصوص التي قرأتها للكاتبة وجدتها كشعاع يشبه ألوان قوس القزح يصعدُ إلى الأعلى أسرع من الضوء، لكنه لا يتقوس .
وهذه القصة بالذات آثرتُ أن أكتب عنها، لأنني أحسستُ ببذخ العزف في كل حرف من حروفها، قصة مكتملة العناصر، شكلاً، ومضموناً، فالكاتبة وبعد قراءة متأنية للقصة، وجدتها قد راقصت بأناملها أوتار قيثارة كلاسيكية، لا يتقن فن العزف عليها إلا عازف بارع، أو أن القصة من بدايتها حتى نهايتها بدأت كسلم موسيقيي " هورمني " وهذا السلم قد بدأ بحرف وانتهى ليصنع معزوفة لكن من كلمات، وقد بدأت الكاتبة قصتها مباشرة بالنقر على الوتر الأول بهدوء، وتعالى صوت العزف بما يتناسب وجمال الإيقاع؛ ففي البداية مارست هوايتها في العزف دون تكلف، فلم تستخدم الإنشاء الممل، ولا قوالب المستهلكة من قبل، وسأحاول فك ( شيفرتة )/ نوتته الموسيقية التي كانت :
شــــــــــــعور ..
فقد بدى واضحاً أن الكاتبة عذبة اللغة، استطاعت أن توظفها لأغراض القصة، فصهرت شعوراً لمسناه في معظم أجزاء القصة في لغتها القصصية ، من البداية وحتى النهاية، كما لاحظتُ في أكثر من مشهد، كما في قولها ( جداول خمرٍ تنداح في مساربها .. تخمدُ اللظى الذي يعتريها، فتنقلتُ سابحةً في فضاء فردوسه ). هكذا هي اللغة الجميلة التي صهرت فيها مشاعر ملتهبة .
فـــــــــ راق ..
يبدو أن الكاتبة بخفة ظل روحها شدت القارئ أكثر، فلم تكن لديها الرغبة في أن تسير أحداث القصة على الخط نفسه، لأن القارئ سوف يفهم معنى القصة عند قراءته السطور الأولى، وبهذا فهي أبرزت ذكاءها قصدت ذلك أم لم تقصده ، فانتقلت من وتر إلى وتر دون أن يمس ذلك العزف ( كادت أجنحتي أن تتكسر حينما سمعتُ نبأ رحيله، لم يخبرني أحد أنه موشك على الرحيل )، وقد أشارت إلى الرحيل مرتين : الأولى حينما خاب من هامت به الروح دون تكلمه فجأة، وعاد ليطل َ من جديد، فأطل كشمس الشتاء إلا أنها ما لبثت أن طردتها غيوم السماء ( لم يغادر مرفأ روحي حتى بعد أن تجاوز حدود البلاد ) .
غفـــــــــوة ..
وتنقلت الكاتبة بنقرة هنا ونقرة هناك، حتى وجدتها تنقلتنا من مشهد إلى مشهد لنعيش هموم البلد " العراق " الذي احتلته أمريكيا، بحجة نشر الديمقراطية ( أية ديمقراطية هذه التي تتشدق بها أمريكيا، هؤلاء البشر تجاوزوا حدود الغباء )، وهنا استطاعت أن تمنح الذاتية غفوة كي تدخل في همومها، وهموم البلد، فالهموم اليومية تطاردك حتى في أحلامك، وهذه حنكة أخرى وجدتها ظاهرةً في القصة .
هـــــــــــــــــــذيان ..
تجلت أطيافُ هذيان الروح سطراً بعد سطر، وكلمة بعد كلمة، مصحوبة ببرق من الأحاسيس، وغيث من اللغة، كمن التصق بآلة العزف، ليعزف عليها بصخب، حتى يظن السامعُ للعزف أن العازف سوف ينطقها، وأنني على أوتار الهذيان الذي استخدمته الكاتبة، كادت الحروف تنطق، ( وأن تيارات الشوق التي تجتاحني ما هي إلا مشاعر أحس بها هو أولا ً ) وتتابع ( فليرحل بجسده حيثما شاء، أما روحه فلم تغادرني أبداً ) ، وكما هو ملاحظ فقد ارتفعت أمواج الهذيان إلى أعلى قمة، لنرتفع معها كلما علت .
اللـــــــــــــهفة ..
وبعد موج صاخب لهفة، وبعد كل نار احتراق، وبين لهفة ولهفة، ضجيج مشاعر تتزاحم، لتشتعل اللهفة بلا نار، فقط من يوقدها جمر الكلمات، ولسطوعها، وبروزها، لم تفلح أكوام الرماد من التخفيف من لظى اللهفة، لان الإحساس الجميل المصحوب بعاصفة هذيان سوف يشعل الكون ( عدتُ إلى أوراق التقويم أطوي صفحاتها ورقة ورقة، تملؤني اللهفة إلى اليوم الذي سألتقيه فيه )، اللهفة جزء هام في سمو المشاعر وتطورها، لذا تجد نفسك غارقاً في هذا الجزء من النص .
بالطبع هناك أكثر من وتر، لأكثر من عزف " فاركسترا " النص ضجت بالعزف، لان " الميسترو " أبدى براعة فائقة في توزيع الأدوار على الجوقة، مستخدماً مشاهدًَ تناسب فن الإيقاع، فالانتقال بين الوتر والوتر، يلزمه مشهدانية تحمل القارئ على بساط من حرير من مشهد إلى مشهد دون أن يشعر بتنقله بين هذا وذاك، ( لا شيء سوى الوقت أجدلُ ضفائره وأجعل منه وقوداً يزيد من لهيب دمي )، وهذا مشهد من المشاهد المتنوعة في النص جاء جميلاً، وأنيقاً بحيث وظف لخدمة النص .
بالبطع إن الكمال لله وحده، ففي الأدب العالمي لم أقرأ نصاً وصل إلى درجة الكمال، فالقراءات النقدية لها مدارس، والمدرسة الواحدة فيها من الرؤى الكثير، بمعنى أنك عندما تسبر أغوار نص أدبي فلا يوجد ميزان ملموس تقيس به، والذائقة الأدبية تختلف بين ناقد وناقد، أخفقت الكاتبة في أمور، ورتوش في النص وهذا ما يقعُ فيه كثير الكتاب، ففي الرتوش هناك بعض الأخطاء المطبعية وهي قليلة ويمكن إصلاحها، وعلامات الترقيم أقلت الكاتبة من استخدامها خاصة علامات السؤال، فالقارئ كثيراً ما يسترشدُ بها لتذوق النصوص خاصة الأدبية منها ( لا أدري ما الذي حدث . وكيف أصبت بحمى منعتني من الخروج )، وفي الأمور الأخرى وجدت الكاتبة قد استغرقت في الوصف، والسرد، وأقلت من الحوار، فلم يكن الحوار إلا في مكان واحد من القصة، كثيرون من القراء والنقاد لا يرون في ذلك عيباً، وأنا منهم، إنما لو كان هناك حوار في أكثر من مشهد سيضيف جمالية أخرى للقصة، لان الحوار عادةً ما تتوالد من خلاله مشاهد .
في هذه الفسحة استطعنا أن نكون مع رقصة أخذتنا بين سطورها بعيداً، أو قد تكون جعلتنا نهرب بروحنا لنعيش مشهدها مشهداً تلو المشهد، فنستغرق في قراءة السطور، الأمر الذي لم نشعر بمرور الوقت، فوجدناه مر كطيف شارد، ما لبثنا أن أبحرنا في قراءة الكلمة الأولى حتى وجدنا أنفسنا في آخر كلمة من القصة، وهذا يعني أننا سوف ننتظر بشغف أعمالاً أخرى للقاصة سولاف هلال بفارغ الصبر، ونحن على أعتاب عام جديد سنعدُ الأيام القادمة بفارغ الصبر، ونمزق أوراق التقويم ورقة ورقة، آملين أن تتحفنا الكاتبة بقصة قبل بداية العام الجديد .
........
مفاتيح :
- الدحنون والنرجس : أزهار من أزهار الربيع .
- الجمل التي بين الأقواس ( ) هي من إبداعات الكاتبة سولاف هلال .
رد: رقصــــــــــــــــــــــــــة؛ عزف على أوتار سولاف هلال في قصتها " رقصة
الأستاذ سامح عودة
تأخرت كثيرا في الرد عليك
هل ستسامحني
قراءتك لقصة(رقصة) كانت رائعة إلى الحد الذي جعلني أعيد قراءتها لأطابق الوصف مع الموصوف
كنت رائعا وأنت تحلق في فضاء النص وتؤطره بذلك الجمال الذي أسعدني
شكرا لك
دام إبداعك وألقك