في ايام الصيف الساخنة والجافة ، يقف السراب كمادة زلالية هائلة ، فيتبين من خلالها وميض قبة ذهبية وشكل مخروطي ترابي اللون .. فتعلم المرأة العجوز أن درجة الحرارة في أرتفاع شديد .. طيلة سنواتها الأكثر من الستين عاماً لم تشاهد القبة والشكل المخروطي الا مرات قليلة .. المرة الاولى حين جاءوا بأبيها وقد فارق الحياة ، بعد ان قتل في الحرب الثانية من القرن الماضي .. جاءوا به محمولا على سيارة عسكرية متعبة ، يرافقه مأمور رث الثياب ، طلب حال وصوله (طاسة ) من اللبن ، ثم اخبرهم انه مات وهو مجرد من السلاح .
بقيت ذكرى الاب عالقة في ذاكرتها . تردد دائما بأنه سيعود .. كان قد وعدها قبل الرحيل بالعودة .. لكنها لم تره بعد ذلك ، وبقيت على حالها تتوقع وصوله في مواسم الحصاد وعند اقامة الافراح وعند هطول الامطار بغزارة ، أذ يرتدي العالم حلة رمادية فيصبح غريباً يتقبل حدوث المعجزات . ليلة أمس رأتهُ في المنام بحضور طاغ ، وملامح وعينين تراهما للمرة الاولى بوضوح تام ، وفيهما نفس القوة التي عاشت بداخلها طيلة حياتها المضنية .
في الصباح شعرت به قريباً منها ، وأنه على مقربة منها وأنه على طرف ما من ارضها ، وأنه على وشك اعلان العودة . ظلت مشوشة ترمي بنظراتها هنا وهناك .. وهي تكنس ، وهي توقد التنور وتعد الغداء .. لكن الظهيرة بدأت تغادر ولم يصل بعد .
أسندت ظهرها على حائط طيني ، تترقب الطريق الزراعي بعينين صغيرتين ووجه اسمر مجعد ، خط عليه الزمن كلمة من حكايته . مر بخاطرها ان غيابه لم يكن طويلاً ، لكن احساسها ببعده هو ما أرّقها واضعفها ليال طوال .. لم يمر بخاطرها ان رحلتها كانت شاقة .. العمل في الزراعة ، وزوج فارق الحياة ، مستوعبة انه مات وأنه لن يعود من رحلة الغياب مع امها .. وابناء متزوجون يعيشون على اراض متناثرة بجوارها .. فكرت من جديد ان مايعوقه عن الوصول قد ذلل بفعل الزمن .
بدأ القرص الناري الاحمر يذوب خلف ظهرها ، اسبلت عينيها بارتخاء وسكينة فريدة ، وقبل ان تطبق اجفانها .. رأته ينتصب امامها بوجه مبتسم محمر ينظر اليها بمودة وحنين ، جلس قريبا منها على الساقية ، رشق وجهه بالماء، وحزامه البني المطرز العريض يلتف حول خصره .. كان يبدوا لها سعيداً وأكثر قوة وشباباً.. ازدادت رائحة الارض والاعشاب قوة ، والجو صار ندياً . مر ببالها ان يديها نظيفة ، وأنه لن يوبخها كما فعل في طفولتها ، عندما أمرها بغسل يديها قبل العشاء ، فوضعتهما في رماد التنور ، وعادت تريه اياهما اكثر نظافة وبياضاً ( كما تظن ) فكانت المرة الوحيدة التي علا صوته عليها ، طالباً منها ان تكون صادقة دوماً في حياتها .
تقدم نحوها ، فنهضت امامه تحمل ( قوري ) الشاي ، وهي تحاول قدر الامكان السيطرة على عواطفها ، حتى لايشعر بأن غيابه قلل من سطوته على البيت ، جلس في مكانها على بساط ملون وأتكأ على وسادة ، وبينما هي تعد الشاي سمعته يحدثها بلهجة من لم يفارقها طويلاً : عن عدم رضاه عن ابنائه ، فالارض وجدها عطشى عندما مر بها ، لكنه فرح بكثرة اطفالهم ، وأن ....... ارادت القول ان الماء اصبح شحيحاً .. لكنها لم تجروء .
وضعت (استكان )الشاي امامه فشكرها ( تسلمين بنيتي ) وشعور بألاندفاع يكاد يفقدها صوابها ، وان من بقيت طوال سنواتها قوية متماسكة ، لم تملك قوة القول : ان الفراغ تملك حياتها وان موت امها وزوجها ولدا فيها حنينا لايقاوم ، وانها في كل لحظة على وشك الانهيار .
وضعت امامه كيس التبغ وبداخله دفتر ورقي ، فقد لونه بفعل الزمن ... جلست بجانبه فوضع يده على رأسها ، ثم سحبها اليه برفق فأسندت رأسها على حجره ، ويده تمسد شعرها بحركة خرائطية ، يبث من خلالها شوقه اليها ، شعرت بأن دموعها لن تتوقف ابداً .. لكن عندما اخذت تجف ، شعرت برغبة لاتقاوم في النوم .. فبدأت تغفو في حجره بعمق وسكينة .. وكل الاصوات اخذت تخرس بعيداً عن مسامعها ، فقط رائحة الارض والاعشاب الندية ظلت تزداد قوة وعذوبة ، حتى أغفت اخيراً دون ان يبلغها ظلام الليل .. أغفاءة لن تقطعها صباحات فلكية جديدة ، ولاصيحات أبناء يزورونها كل يوم ( يمه .. يوم وين انتِي
قيل إن من قرب موعده مع الموت شعر بقرب الأموات منه حتى كاد يشتمّ رائحة الموت قبل أربعين يوما من موعده ،
كانت جدتي تقول إن ورقته سقطت من السماء و قرب أجله ،
كم تعجبني العناية بالتفاصيل الدقيقة في نصوصك أستاذ صباح و التي غالبا ما تكون عصية على الكاتب ثم التصوير الدقيق الصحيح إلى حد يجبر القارئ على الإمساك بتلابيب النص ولا ينفك منه قبل النهاية ،
و الأجمل من كل هذا أن طعم النص و مذاقه يبقيان مدة ليست بالهينة بعد المغادرة ، وهذه صفة أخرى رائعة في أسلوبك ،
لك خالص الدعاء و زهر .
التوقيع
لايكفي أن تطرق باب الإنسانية لتحس بمجيئها نحوك , عليك أن تخطو تجاهها و التوقف عن الاختباء خلف الزمن,