• حبات المطر تتساقط على النافذة..من شدة احساسه بالمطر وتتابع افكاره مع ما يجرى فى الطقس خارج المقهى.... كان يمسح وجهه من آن لآخر بحركة الا شعورية ..فتنمل جسده اقنعه بان حبات المطر تتساقط على وجهه..انطلق برأسه هائما عبر الشارع الممتد على قمة المدينة الصغيرة ..كان خاليا الا من قلة من المارة كل منهم يهرول صوب اقرب مكان يحميه من الشبورة.
ذهب بعيدا..بعيدا .. فى الموج المتعاقب ..آه..انه يحبها ..ولكن .. ان اسوأ اللحظات هي تلك التى يحس فيها الانسان باهبوط والاحباط وفقدان الحيلة...اختراق راسه نواح ام كلثوم داخل المقهى:
تنهد..آه من الهزيمة..ينتهى اى انسان عند قدميها!! ذات مرة وصف له صديقه حالة هزيمة ..ما ابشعها..ما ابشع الاحباط!! قال:
- كنت مسؤلا عن احد المواقع المعمارية..كانت افواج العمال تاتى الينا من مصر..كل فوج معه رئيسه الذى يساوم به!!نظام مريع لكن لايستطيع احد ان يتجاوزه..كل عامل له سيد وكل سيد معه عبيد للعمل والشاى والارجوزة..اذا اعترضت لن تجد من يعمل معك..حتى العامل نفسه لابد ان يبحث عن سيد وفى يده العصا..نظام غريب لكنك لاتستطيع تغييره حتى ولو لم تقبله..قال صديقه: حدث فى يوم من الايام ان جاءنى عامل لوحده ..كان متمردا على قوانين السيادة!! حالة خاصة ويائسة..رئيسه هدد بترك الموقع اذا لم يتم طرد العامل..كنت اعطف عليه واعجب به لانه كان يختلف عن الآخرين ..ولأنه يختلف..تمرد واعتمد على عطفى عليه ..والآخر كان يعتمد على الدولة ( رب العمل, مدير الشركة)..اختلفت حسابات العامل وخسر الجولة والعمل:
- آسف انه لايريدك ان تعمل هنا و....
- اعرف ولكنك المسؤل هنا....؟؟( كان صوته متهدجا عندما ادرك بوادر الهزيمة )
- نعم ..لكنه لايرغب فى وجودك ..ومادام كذلك ..فأنا الآخر لاارغب و..................!!؟؟
كاد الرجل ان يلفظ انفاسه فى مكتبى.. لازالت صورته امامى.. لقد تابعته وهو يجر بقاياه حتى توارى عنى..تراءى لى انه سقط بعدها مباشرة..
- هيه يامبارك العب..الى اين ذهبت برأسك؟..ياله من صبح ندى رطب..العمل بالليل يغنينا عن عناء النهار.
- لكنه لايغنى عن لعب الورق فى هذا المقهى ..ونتحدث عن الناس؟؟؟
- ايها الابله ما الضير فى ذلك..مادمنا لانملك ان نفعل لهم شيئا..انه حديث فى الهواء..
- توقف المطر..هاهى اخت صاحبك تمر من امام المقهى
- ماذاتعرف عنها هي الاخرى ايها الملعون؟؟
- يقال انها تحب نصف شباب المدينة ..وتتشاور مع قلبها لاحتواء النصف الباقى.
ابتسامة شاحبة احس بمرارتها فى قلبه:
- تبا للسانك الشقى
- معى لص كبى..هل معك ورقة مفيدة..
- نعم ..لكنك تكسب الجولة!!
النهار يمضى كلمح البرق ، ياكل الزمن وياخذ العمر..بدأت قوافل الفتيات فى العودة الى المنازل بعد يوم دراسى ممطر:
- هاهى ..يا الهى انها تبتسم لك..
- دعك منها واستمر فى اللعب
- لعب الورق ام اللعب عليها ( قهقه بهستيريا) يقال ان عدد الشباب فى الحى مائة شاب , اى ان صاحبتك تحب خمسون بالتمام والكمال..
- ..........................................؟؟!!
- ياله من فائض فى العشق؟؟؟
- يالك من نذل لاتنسى اخاها صديقنا
- هه هل تظن انه لايعلم؟؟انه يغض الطرف فقط..انهم خمسون يا مبارك..يالله لابد ان الارقام اهلكته المسكين؟؟!!
- دعنا منها والعب ايها المشاكس..
- وآنت ايها اللئيم ستكون الرقم الواحد بعدالخمسون ..ارجوك لاتفعل؟؟
- .................................
- ان هذا الرقم شؤم..الاتعرف لماذا؟؟
- ................................
- انه الرقم الذى تستعمله الحكومات لاقناع شعوبها بانها تسيطر على ثرواتها؟؟
- تعنى التأميم؟؟
- بل قل الترقيم........
- ....................
# # #
- نحن نحلم ..نعيش فى المستحيل
- نحن اقوياء
- والشاب الذى قرر اهلك ان تتزوجيه؟؟
- لااحبه..لن اتزوجه..!!
- لكنه ابن خالتك..انه اوسم منى واكثر شبابا
- تحف كثيرة..لكنها تبقى تحف وجامدة
- حديث الحكايا والروايات..بعد عشرة سنين تكتشفين خطأاختيارك لى
- لن يحدث هذا ابدا
- لن يصدق احد انك احببتنى .. بعضهم يقول غرر بها ..ماذا احبت فيه؟
- انت طفل جميل ..من هي البلهاء التى تكره رجلا مثلك ..انا لست بلهاء
- والخمسون؟؟
- رقم مبالغ فيه..هفوات وانتهت
- ....................................؟؟؟
- الا تغفر لى صراحتى معك وصدقى؟؟
- ..................................؟؟
- الى اللقاء...
# # #
عاد الى المقهى.. شتى التعابير فى راسه..حركت جوانحه نظرات الحنان التى تدفقت من عينيها..اصرارها سوف يهلكه..هز راسه ساخرا من نفسه , وشعر بالحراجة تجاه شخص ما:
- يقال انها سوف تتزوج قريبا
- عمن تتحدث ؟؟
- من غيرها؟؟صاحبتك يا صديقى..
- لايهم ..
- نعم لايهم ..استمر فى اللعب يا مبارك..
فعلا لايوجد على ارض ما فى هذا العالم اسوأ من الاحساس الهزيمة..انه يرى العامل الآن بكل ملامحه..كانه هو..التفت نحو المظروف المرمى على المنضدة..قرأ الرسالة من جديد:
- يالك من طفلة شقية وعنيدة!!
انكفأ على وجهه ..بكى بحرقة..كان عجزه واضحا..وكانت لحظة ما؟؟؟
# # #
صباحا عاديا لكنه بالنسبة له ليس ككل الايام..تذكر صديقه المشاكس والرقم 51..رقم بائس احذر ان تكونه..ما اسوأ الهزيمه..ترى ماهو شعور الحكام عند اى هزيمة ؟؟ عرف ان ابتساماتهم للناس تخفى وراءها شعور باليأس والعجز مثلما هو العامل الذى تصور انه سيموت..مثلما هو الآن ..يبتسم ..تماما مثل اى مهزوم يكابر!!انطلق صوب المدرسه..يتمنى ان يثقل الخطى..ليته عرف المزيد من اللعين لكن وقاره منعه من الاسترسال:
- صباح الخير...
رد بلسان متباطىء للغاية..مد يده بالرسالة.... تراجعت كالملسوعة..كالمذعورة..كأن خاطرا ما يجذبها الى الخلف..اقترب منها..تراجعت..الحيرة ترتسم على وجهها ..لاحظت اصراره..تراجعت خطوة..ثم تقدمت خطوة..اختطفت منه الورقة وذهبت مسرعه بعد ان رمقته بنظرة غامضة..
مرت ايام قاسية لم يذهب الى المقهى..ولا الى جهة المدرسة..فى اليوم العاشر احس بالحنين الى المقهى..حمل ضعفه وهزيمته وتحرك صوب المدرسة..عندما اقترب بدا خفقان القلب يشتد..رآها..رأته..اقبلت نحوه مبتسمه:
- ولكن؟؟؟
- تعنى الرسالة؟؟لقد مزقتها ..لم اقرأها!!
احس بارتياح غامض:
- ولكن لماذا؟؟؟؟
- ادركت باحساس لم افهمه ان بها ما يحزننى..وتاكدت من ذلك بعد غيابك عنى غير المعتاد..المهم اين كنت طوال هذه الايام؟؟
- ياوردتى ..انا..انا....انـ.......
- انت يا مسكين يا طفلى الجميل ..هناك من يقرا على رأسك اشياء غريبة..
# # #
لايريد ان يعمل تفكيره..سيعطل راسه عن الدوران..سيترك كل شىء للوقت ..ثم تسلل الحلم كالعادة( كان الضباب يملأ الاركان ووردة تنظر اليه مضطربة..شزرا..ثم اجالت ببصرها نحو الشارع فى كبرياء ثم يأس..شعر بشىء ما يهبط فى صدره..ثم وقع فى قاع عميق) ..
افاق يلهث من من المشوار الطويل... اراد ان ينسى فى غمرة الاصدقاء والمقهى واوراق اللعب ..التقى الماضى مع الحالى..نظر الى آت مجهول..تذكر هزيمة العامل..وعيون وردة...وضعفه وصديقه الآخر ثم الآخر وكل الوجوه ..اراد ان يهرب من كل الامكنه , ان يغير الشارع والاصدقاء والمنزل والمقهى والمدينة والعمل؟؟؟؟...لكن:
- العب يا مبارك؟؟العب ايها الرقم البائس!!!
- وهل تركت لى ورق العب به؟؟
- اوراقك كشفت يا لعين يا ابن ال....................؟؟!!
ثم توالت الايام....... ( لم يحدث شىء ولم يكف شىء عن الحدوث[1] )
(1) من كتاب القرود لصادق النيهوم..