وأول ما قرأت لسهام بوخروف كان سمعا , و أقول قرأت لأن الواحد منـا و هو يتبع سير السرد المقروء يكون ضمن دائرة النص مستمـــــــعا للصوت مشاهدا للمنظر متبعا تشكيل الكلمة ’ فليس الشعر وحده من يأخذك بموسيقاه إنما السرد أيضا بتشكلاته و صوره و كثافته و إيجازه.
قلت أني تعرفت حينها على القاصة سهام بوخروف في ندوة ثقافية أقيمت بمدينة خليل و كنا تبادلنا أطراف الحديث ’ و لاحظت عندها نفسا روائيا كانطباع أولي حول مجموعتها القصصية –بيننا حدود و رسائل حب- الصادرة عن منشورات السائحي 2008 في حجم 16*12 جمعت دفتيها 13 قصة فيما يقارب الـ400 صفحة ’ هاته المجموعة التي كلما توغلت فيها بحثا عن سهام الأنثى كنت أجدني أمام سهام الوطن هذا الهاجس الكبير الذي تمحورت حوله جل قصص المجموعة بين استلابية المهجر و سلبية الرحيل إذ نجد في قصة –لأنك يا يوسف كنت خارج الدائرة-:
( أنا في مدينة الضباب حيث لا أكاد أرى نفسي) , ففي تورية الضباب كجزء من طقس لندن و عدم وضوح الرؤية للبطل كمنسلخ من مجتمع أخر بعاداته و تقاليده و يومياته ’ ترفض الكاتبة جميع مبررات الهجرة , و مثلما شبه النجاح الذي حققه البطل على مسارح لندن حققت الراوية نجاحها على أرضها و هاهي ذي تمثل بلدها في مسارح العالم, و هو ما يحدو بها إلى رفض النجاح المحقق خارج الدائرة الذي لن يكتسب شرعية تمثيل الوطن :
-لا أحد يا باية يستطيع أن يمثل الوطن غيرك و غيري..
استوقفتني كلمتك (غيري)طويلا..تذكرت الدائرة ..كدت أقول:
-لكنك خارج الدائرة يا يوسف
فأمام البطل حواجز ثقافية واجتماعية جعلته يحذف مقطعا كاملا من مونولوق:
(لأننا نكافح كما الشرفاء في بلادنا حيث يوجد الخطر..وحيث توجدون ياهؤلاء ..نحن لا نكافح بعيدا عنكم لأننا نكافح ضدكم ’ و ليس لنا يا بلدي بلد سواك ).
و يأخذ الكاتبة الرفض لهذا النموذج البشري-المثقف- إلى اللغة المباشرة في القصة حيث تروح تشرح:
حذفت كل هذا المقطع..كنت تعلم أن الخارجين عن الدائرة تسقط بعض العبارات الشريفة من قواميسهم..كالكفاح مثلا ’ و كالبلاد..لهذا كنت تركز كثيرا تحت ضغط عقدة ما في نفسك على كلمة الشرفاء..
و الموقف نفسه تتخذه القاصة تجاه اللاجئين الفلسطينيين في –الوطن الثاني-:
(..لم أكن وحدي أبحث..كانت معي قضية..و كان معي صديق أمسك بيدي مرة..و فجأة أخذني المنفى بعيدا عنه..)
و حينما يتكرر على سمعه:
( مرحبا بك سيدي الشاعر في وطنك الأول ) تؤلمه كلهم يعتقدون أني ذهبت في رحلة بحث عن وطن ثان..)
حتى و القاصة تولج في السرد شعرا فإنه لم يخرج من دائرة الهجرة’ السفر’ الغربة’ الاغتراب _(نسافر في الذكريات الأليمة ..و نطيل السفر) من ديوان المسافات لنور الدين درويش ’ إذ كيف للمهاجر كيف للمغترب كيف للاجئ أن يشارك في نسج فسيفساء الوطن و يكون له يد بيضاء لدى هذا الوطن ’ يكون له بها مبرر حب الوطن له؟ تقولها القاصة على لسان البطل:
-أيمكن أن يحبني وطن لم تشرق فيه الشمس بسببي؟
و تتكرر العبارة بهذا السؤال المؤرق لكنها تصل إلى الاغتراب داخل الوطن الواحد فهذا الذي يرفض أن يقبض ثمنا لجهاده أعطته الشمس ظهرها :
- منذ أن غادرته ’ و منذ أن مات أبي و لم يجد له شبرا على أرض –قيل- حررها ذات مرة..
فقد اختلطت المفاهيم و لم يعد هناك فرق بين الخيار و اللاخيار بين أن يسلبك المهجر أو أن تستسلم أنت للرحيل حينما تصبح خارج الدائرة:
-لا الشرق شرق و لا الغرب غرب..حتى هي أضاعت البوصلة.
هذا السفر الهاجس بين الاختيار و اللا خيار مع ما يصاحبه من نظرة الأخر:
(-تتقاذفك الحدود ..ينبذك بعض الناس لأنك ضيعت أرضك ..و يشفق عليك بعضهم لأن أرضك ضاعت منك..)
في السقوط من المسافات البعيدة كان لا بد له أن ينتهي إلى السفر الأبدي:
مع كل الذين رحلوا فجأة و لم يودعونا..لم يتهيأوا جيدا للسفر الأبدي..
هذا السفر الذي يبدو في النهاية بداية لا يصل إليها إلا الميت الحي :
لكنهم أموات..لا احد أجدر منهم ببدايات جديدة.
و مثلما كانت البداية لدى القاصة سهام في القصة الأولى من المجموعة-قالت هدى- يأتي الجواب في أخر قصة:
-أين نحن؟
-في جب عميق ..ضيق..أو بالأحرى في معتقل من معتقلات أرضنا الصلبة و الحقيقية..
و أتت على ذكر المكان بشكل أعطى طابع المشهد في أغلب قصص المجموعة و حمل هموم الوطن –غفلة قمر-أنا و أنت و هذا الوطن كله...
و جاءت –سيدة العنكبوت- مغايرة لنسق القصص الأخرى إذ تحيلنا إلى أن محاولة صناعة الفرح بمحليته تتحول إلى تعلق بالقشور ’ و يكون الرفض للتعفن و الاستلاب معا و البطلة –الأنا- تقف وسط النقيضين طقوس غريبة و استلاب لعين.