هكذا أنا .. أصغي إلى همس روحي ، فهو دليلي الذي أستعين به لتعزيز الثقة التي كثيرا ما أتردد قبل أن أمنحها إلى الآخرين .
الحب بشكله التقليدي لم يكن ليستهويني ، فطويت صفحته واكتفيت بمحبة الأصدقاء ، حتى شعرت باحساس لذيذ يتسلل إلى أعماقي .
دخل مدينتي الروحية .. لابمحض صدفة وإنما تدريجيا عن طريق بعض الأصدقاء .
إنضم إلى مجموعتنا المنتقاة ، فأثرى جلساتنا بغزير معلوماته ، حازعلى إعجاب الجميع ، الكل صرح له بذلك ، لكني لم أفعل ، لأني كنت أتستر على تفاعل روحي بدأ في التنامي ، كما أنني حاولت أن أتدارك شعورا متصاعدا نتج عن ذلك التفاعل .
أي جنون يتملكني ما إن تشرق شمسه الدافئة على جنائن روحي .. جداول خمر تنداح في مساربها .. تخمد اللظى الذي يعتريها ، فتنفلت سابحة في فضاء فردوسه .
ترى هل أحس برفيف أجنحتي .. هل إعتراه ما اعتراني من شد وجذب وجنون ؟
كادت أجنحتي أن تتكسر حينما سمعت نبأ رحيله ، لم يخبرني أحد أنه موشك على الرحيل !
لم أعلم من قبل أنه يقيم خارج حدود مكاني وزماني ، لماذا منّ الدهر علي إذن بهذا الكم من اللقاءات ؟!
اللقاء الأخير كان صاخبا إلى الحد الذي جعلني أفكر بالانصراف ، فأعصابي كانت متوترة وغير مهيئة لاحتمال ذلك الضجيج ، كما أنني كنت حريصة على ألا أكون مبعث قلق للأصدقاء الذين كانوا ينعمون بالمرح والسعادة .
آه ... نسيت أن أنوه إلى أن مجموعتنا التي تتكون من خمسة أشخاص ، اختارت يوم الاثنين من كل أسبوع موعدا ثابتا للقاء ، ويعد هذا اليوم متنفسا لكل فرد منا ، ففيه نمارس ديمقراطيتنا المزعومة ونلقي الضوء على مايدور حولنا من أحداث ، كما أننا نتبادل الرأي والمعلومات ، فنحن على اختلاف ثقافاتنا نشكل مزيجا متجانسا وطاقة يغذي بعضها البعض .
هدأ الصخب ولم يهدأ توتري ، قالت صديقتي :
ـــ فنجان القهوة برد ولم تلمسه يدك .. بماذا تفكرين ؟
ـــ في اللاشىء .
ـــ لكنك كنت تسرحين بعيدا ... بعيدا جدا .
ـــ ربما ... لكني لا أفكر بشىء على وجه التحديد .
ـــ صمتك بات ملفتا .. ماذا هناك ؟
ـــ لاشىء صدقيني .
ـــ لماذا لاتشاركينا الحديث إذن ؟ هذه ليست عادتك .
حملت ردودي نبرة واهنة ومبررات لم أستسغها أنا نفسي ، أنقذني صوته من الفخ الذي كادت أن توقعني به صديقتي دون أن تقصد .
كان صوته يحمل مزيجا من الجد والسخرية :
ـــ أية ديمقراطية هذه التي تتشدق بها أمريكا ، هؤلاء البشر تجاوزوا حدود الغباء ، وأصبحوا لايدركون إن العالم كله يسخر منهم ، ديمقراطية الحرب هذه صيحة جديدة في عالم السياسة الأمريكية ، ونأمل ألا تصبح موضة العصر .
قال أحد الأصدقاء :
ـــ لكن الشعب العراقي نفسه صدق ادعاءاتهم .
ـــ لا... الشعب العراقي ليس بهذه السذاجة ، وها هو أمامنا يجسد أروع البطولات ، وسيظل يقاوم ويقاوم حتى يحرر بلاده من براثن الغزاة ،كثيرا مايتملكني الخجل يا أخي وأنا أجلس بين أفراد أسرتي مكتوف اليدين ، أين دورنا كعرب .. كلنا مقصرون بحق هذا الشعب و............
توقف الكلام بالنسبة لي ، ولم أعد أسمع سوى هذه الجملة " يتملكني الخجل وأنا أجلس بين أفراد أسرتي " له أسرة إذن ! هذا ماكان ينقصني .
انتهت الجلسة بسلام ، ودعنا .. غادر المكان ، لكنني أقسم .. أنه لم يغادر مرفأ روحي حتى بعد أن تجاوز حدود البلاد .
مرت الشهور شديدة الوطأة على روحي الهائمة به ، عليّ أن أتجرع مرارة أيامها ،ساعاتها ، ثوانيها ، وأن أحتمل تيارات الشوق التي أطاحت بما تبقى لدي من صبر واحتمال .
لاشئ سوى الوقت أجدل ضفائره وأجعل منه وقودا يزيد من لهيب دمي ، لجأت إلى النوم علني أفلت ولو لبعض الوقت من محرقة الزمن الذي بات شغلي الشاغل .
هنالك قناعة احتلت حيزا من تفكيري ، هذه القناعة تؤكد لي أنه على علم بما أكابد من لوعة وأحزان ، وإن تيارات الشوق التي تجتاحني ماهي إلا انعكاس لمشاعر أحسها هو أولا ، ثم ارتدت إلي .
مع كل خفقة حب .. مع كل لحظة ألم ، أزداد يقينا بأن هنالك رابط يربط روحينا ، هذا الرابط لايخضع لمنطق المسافات ، فليرحل بجسده حيثما شاء ، أما روحه فلم تغادرني أبدا.
نفدت أوراق التقويم .. نفد صبري ، ها أنا على موعد مع الفرح الذي سيتسلق جبل أحزاني ، فلقد أزفت ساعة اللقاء .
كنا على وشك الانصراف ، لما أقبل على مجلسنا بابتسامة تنم عن فرح وإشتياق ، رشق عيناه في عيني دونا عن سواي ، ارتبكت ،غمرني الفرح ،أدركت أن يقيني كان على صواب .
هدأت عاصفة الترحيب .. تدفقت الأسئلة من كل إتجاه ، كان يتحدث وعيناه لاتغادران عيني .
شعرت بالشوق الذي تكابده روحه .. إشتد وجع روحي ، لكن .. سرعان ما تلاشى كل شئ من حولنا عندما بدأ حوارا لا مسموعا يدور بيننا .
تلك الومضات التي تشع من عينيه ، سرت كما الحريق في مجرى دمي ، فانطلقت روحي لتعانق روحه في رقصة روحانية ،على أنغام موسيقى سماوية، لايعرفها إلا من ذاق حلاوة ذلك العناق ، يالها من نشوة ساحرة لايمكن أن تصل إليها غريزة الجسد الحمقاء .
أدركنا الوقت .. تباً للوقت ، لحظات وسأسقط في جب الأنتظار من جديد ،غادر المكان .. غادرني الفرح ، ومضيت ترافقني أحزاني والنشوة التي سرت في العروق .
مرة أخرى ، الانتظار .. الشوق .. الألم ، لكن عزائي هذه المرة ، أنني ألتقي وإياه عند نقطة واحدة ، ربما تكون هذه النقطة وهمية ، لكنها بالنسبة لي نقطة وحسب .
عدت إلى أوراق التقويم أطوي صفحاتها ورقة ورقة ، تملؤني اللهفة للوصول إلى اليوم الذي سألتقيه فيه ، هكذا صرت أمزق أيامي ، متجاهلة كونها محسوبة من عمري .
إنصرم العام .. هل شهر آب .. سيهل هو أيضا ، بعد أيام ستبدأ إجازته ، وسيبدأ عامي الجديد ، فسنتي مرهونة بقدومه ، لذلك لابد أن أحتفي بقدومهما معا .
صرت "بابا نويل " قدمت الهدايا لنفسي .. إقتنيت أحلى الثياب ، ورحت أتأهب لاقتناص اللحظة التي ستحتضن عيناه عيني .
لم أحظ بلقائه ، لاأدري مالذي حدث . وكيف أصبت بحمى منعتني من الخروج . حضر موعد يوم الاثنين ، إفتقدني .. سأل عني .. حمّل الأصدقاء تحياته وتمنياته لي بالشفاء .
هل سألتقيه ثانية ؟ كان ذلك في علم الغيب .
تمنحنا الأقدار أحيانا بعض الهبات، فما أروع الساعة التي جمعتني به ، لكأنها خرجت من بين أحلامي لتفاجئني به .
كنت أجر أذيال خيبتي وأنا أسير في شارع لم تطأه قدماي من قبل ، لمحته عن بعد ، يا إلهي إنه هو ! رآني هو أيضا .. تلاحمت أعيننا ، وفي المسافة التي تباعد مابيننا، أفلتّ زمام روحي ، فانطلقت لتعانق روحه في رقصة روحانية على أنغام موسيقا سماوية ، في مشهد لايتكرر إلا مرة كل عام .
اقتربت المسافة بيننا .. تجاوز أحدنا الآخر ، ربما تكون زوجته هي التي برفقته، سرت بضع خطوات .. استدرت .. استدار هو أيضاً .. رمقني بنظرة حنون ثم
مضى ، فمضيت .
عدت مخمورة بالنشوة ، أسأل نفسي هل ماحدث كان حقيقة أم خيال ؟
أخرجت أوراق التقويم لأمزق أيامي القادمة ، وأنا أنتظر بفروغ صبر رقصة عام جديد .
لقد حملتنا في لحظة على جناح هادئ، الى عالم يعجُ
بالهذيان، فرأينا أنفسنا، معلقين بهدب الجمال بين السماء والارض ..
لا نريد أن نهبط أكثر ..
ولا نطير فنحترق ..
في نصك ( رقصة ) رغم جماله، أبهرتني بعض الكلمات ..
كلمة ( الخمر ) و ( مخمورة ) .. أحسست بموسيقى أخرى لهما ..
فدندنت مع اللحن ..
وهنا دعيني أغوص قليلاً الى أعماق النص أكثر ففي هذا النص عزفتِ على ثلاث أوتار :
الاول : وتر الهذيان .
الثاني : وتر الوطن، الاحتلال، الديمقراطية، والاختلاف في الرأي في الأوسط المثقفة
الثالث : وتر اجتماعي الحياة الزوجية ومكوناتها ..
بين الأوتار الثالث استطعت أن تنتقلي بكل سهولة، وعلى نفس المنوال من اللحن دون أن يشعر القارئ بنشاز .
في القصة مرادفات جميلة خاصة انتقاء المشهد الذي يسحب القارئ ليكون بين تفاصيله .
بالتأكيد القصة جميلة لكن كلمة لم تروق لي كقارئ ( أجرجر ) برأي الأفضل ( أجر )
كنت أجرجر أذيال خيبتي
كنتُ أجرُ أذيال خيبتي
وهذا متروك لك ..
المهم هذا النص سأحتفظ به لانني ربما اكتب عنه شيئاً ..