لم أكن أدري، أن هناك حكم بالإعدام بلا موت، وأن الموت حياة جديدة لاتعني الإعدام....
أو أن هناك موت خالٍ من رجفة ماقبل الموت، خالٍ من علامات الموت الحقيقي، من تمدد الوجه وشروقه على غير عادته، حتى ليخيل إليك، أنه مسرور، حتى شخوص البصر له درجات، وانفراج الشفتين له علامات، وقد يبدو مخيفا، فيربط أحدهم الوجه بخرقة مهملة، تبين أنه انتهى تماما، وأنه توقف عن كل نشاط...وترك وراءه عمله، يربطونه لأنه شبع من الحياة ولم يشبع، وربما حتى لاتظهر أسنانه المهترئة، وليحافظ على مظهر موت وقور، حتى أن سقوط القدمين وانخساف الصدغين وانفصال الزندين، قد لاينتبه إليها المكلوم بحادثة موت عزيز، إنما ينتبه لآخر لحظة فقط شاهده فيها، وموقف ملفت حصل حينها عبر ضيق الصدر والحشرجة المريضة.وقد يموت مريضا أو فجأة، أو عبر حادثة طارئة، وقد يرضيك فعله للخيرات في رحلة حياته القصيرة، فتمدحه وقد تمدحه بغير مافيه، لأنك ستفتقده أخيرا...
لم أكن أدري أبدا، أن كل هذا بداية فقط ، فموت إنسان ليس هو الموت الفيزيائي الذي يغيبه أبدا بل موت التهميش، موت الهدر العقلي والروحاني، وموت الغفلة وموت العطلة، ، عموما كان يكفينا خبر موت أي عزيز، لكي نبكي على أنفسنا كثيرا...ماأعرفه من المشاعر المسببة للموت النفسي أن عالم الأفكارالمشوشة التي ستأتينا من تأنيب الضمير والتقصير الذي يجعلنا نقول علنا او سرا:
-ليتنا فعلنا هذا لأجله..ليتنا لبينا رغباته على صعوبتها وإحراجها.
إنها تنبؤمتأخ، عن أن المرء ليس متصالحا مع عالم المشاعرالحقيقية!..
شخصيا لو عدت للوراء زمنيا، لسنوات طويلة، لسألت نفسي طويلا:
-هل كنت سأوافق على تلك الخطوات المنافية لمنطقي وقناعاتي أخيرا؟، و الذي أعلن عنه في كل سلوك؟،فأجد العالم من حولي واسعا منيرا ورافدا وسعيدا؟،أكثر مني.فألوم نفسي لأنني لم أكن جريئا في اتخاذ قراراتي؟، أم سأندم لأنني لن أعود أنا؟.بل أنا شخصية مزيفة خارج جغرافية المنزل وحقيقية داخلا.فالازدواجية والانشطار النفسي شعار الحداثة، لقد صرح الدكتور مصطفى حجازي في وجهنا وفي كتابه الإنسان المهدور:
-كلكم مهدوروا الطاقات والنفوس والمعارف...
نعم أنت مهدور الطاقات داخلا، لكنك تعوض ذلك بالحديث عن ماضيك المشرق، أو عبر حوار متفذلك مفتعل لتغلب من هو أدنى منك خبرة ومعرفة ومنزلة..!
لكأن حبل المشنقة الآن غير محكم على رقبتي!..فالواقع معقول حولي أو خلته كذلك، لتأقلمي مع انزياحاته، وكنت لم أبلغ من العمر عتيا... وهاتفي النقال يحمل أغانٍ ممنوعة، وصوت رنة هاتفي تحمل صوتي الصداح بالحكم القديمة وإضاءة شاشته منيرة جدا وساطعة أحيانا وأحيانا كثيرة لاترى، وأحب النزهات ولقاء الناس، وأحب أن أرتدي ما يثبت نظافتي، وأتناول الطعام الصحي ربما أناقش قليلا وأناصر رأيي...ورأي الناس يهمني جدا، لأعرف من أرافق، لكنني لاأحب الزحام، ولا أنصاف الناس، ومازالت أمور عديدة تبهرني وتثيرني...هل هذا يعني أنني في منتصف العمر؟ فمازلت مكترثة بمن حولي ولو قليلا...ولكن لماذا حكم علي بالإعدام؟.لم يجبني أحد حتى الآن!.لكأن هناك سعادة وتعاسة مترافقة معا كالظل، لم تكن كاملة يوما ما، وهذا سبب تقلبها للطرف الآخر!...فكيف نثبتها؟ألا يوجد لها مقياس كالغرام والكيلو؟. فنقيس حجم سعادتنا ونعدل الكفة ببعض المغريات، أو نعدل سعادتنا خوف الاندفاع الفارغ ، فنشرب قرصا مخففا؟ فنتوازن!.
مازلت لاأفهم، لماذا دفع بي والدي لبلاد الغرب؟ ولم أكمل تعليمي بعد، فلم أكن قد تجاوزت الصف الثالث الإعدادي؟، لن أعود مهما فعلوا..فأنا أعمل وأسوق السيارة، فماشأني بالعلم؟.ورغم هذا مازلت وحيدا، أريد أن أقضي حاجتي وحدي، لكن أحدا ما لايسمعني...فتنهال النصائح من كل حدب وصوب تسيل في أذني سيولا حتى الطرش، هل أموت وأنا أحتاج لتفريغ مثانتي مثلا؟، وحيدة في الدنيا ووحيدة في الموت، وربما لا أجد نفسي وحيدة بعدئذ...لعل صبري يأتي بخير،لم لست آسفة لموتي؟ لن يصدقني أحد...أنني بريئة..الغريب أنهم قرروا أن يميتوني بجميع الأنواع!وهل سأموت على مراحل؟..!!لو يعرفوا أنني مت قبلها مئات المرات، منها عندما كنت في بلاد الشمال عندما كانت سيارتي مظللة النوافذ باللون الأسود، حيث أخرجني شرطي منها، قائلا لصديقه:
-هذه السيارة التي كنا نبحث عنها، وجنسيته العربية التعسة تثبت المعلومة، فكوا حزامي الجلدي دكوني في سيارتهم مكبلا، وهم يتفحصون السيارة بدقة جدا، وكلاب تنبح حولها...وبعد وقت غير قصير، كنت فيه تلوت القرآن كاملا عدة مرات غيبا ، فاجأتني نفسي بذلك فعلا ، ولم أدر انني حفظته عن ظهر قلب ،وتلوت الفاتحة وذكرت الشهادتين لأموت مرتاحة بلا ديون..اقتربوامني رويدا رويدا محتارين، تأسفوا قائلين بلغتهم:
-كنا نعتقد أن سيارتك مفخخة كما وصلنا، نحن نعتذر جداجدا، وإن وجدت أن تشكونا للسلطات فافعل نحن نستحق، لكن صدقنا كنا نطبق التعليمات فقط، خرجت كالمنتصرة، وكنت أعتقد أنني مت فعلا، حيث أن الشكوك كما أعرف وحدها قد تعدمك حياتك، تحاصرك وتضع إصبع الاتهام في عينيك فتعميها، استرددت كرامتي من جديد بإرادتي، ورغم عدالتهم الواضحة وصدقهم، تذكرت أنها غالية جدا، خاصة أن مخالفة السير عندهم قد تتجاوز النصف مليون في عملتي المحلية...عدت للحياة من جديد ، وتوقف خفقان قلبي، بل عاد قلبي للحياة بعد أن كاد يتوقف..كيف أن سيرتي الحميدة في بلادي تتحول إلى وحش في الغربة!.فليعدموني، خاصة أنني غدوت وحدي في هذه البلاد، رحلت أرواح أهلي للسماء، بسبب مجانين يتقاتلون بلا هدف واضح، ربما سمعوا صوت الصدى من بعيد، فسبب لوثة في عقلهم، أو جرثومة كانت في الهواء فدخلت من منخارهم!.فعطبت دماغهم.
مابقي منهم سوى حفيدة ذات أربع سنوات، شقراء بريئة، تربت تحت جناح صدقات الجمعيات الخيرية، فلم أكن حينها أبات سوى في نصف منزل مهجور تهدم نصفه، وعند البرد كنت أضمها لصدري حنانا، كانت تناديني مرة ماما ومرة بابا!.
حتى اختارها ذاك المرض الماكر، فأنفقوا علينا مالهم صدقة لعلاجها، كانت تتقيأ، يسقط شعرها تنظر إليه وتبكي، أواسيها بأنه سيخرج أجمل منه بعد شفائها، أشقر أجمل وأكثر لمعانا ذهبيا، أتذكر عند أخر حقنة مخدرة أعطيتها إياها، نظرت إليه قائلة:
-أنا أحبك جدا، لأنك تطرد الألم..
عندما هدأت تماما، ذهبت إليهم قائلا:
-لاداع لمالكم، شكرا لكم لقد ماتت..
عدت لتلك الجدران المتهدمة أبكي وحدي..أليس هذا هو الموت بعينه؟.أن تشعر بللاشيء حولك..دوما كنت أخاف من الغرف المغلقة، ومن العقول المغلقة التي لاترى سوى مايهمها، كل الحسناوات لم تقبل بي زوجا، لأنني بت شابا أصلع وبدينا بعض الشيء...نعم أنا ذكر....هذه هي الحقيقة الآن..
لو كان للغرف المغلقة نافذة صغيرة فلابأس، فأمي لم تكن تجعلني أخاف من شيء، بل دفعتني لأجرب كل مايمكن تجريبه وأنا صغير، ولكن حرائقا في طريقي عندما صرت يافعا، لم أستطع إخمادها، قالوا لي ابتعد عنها فقط، فالناس باتوا عبارة عن عقد نفسية تمشي في الطريق، حتى المتسلط منهم، ذلك الجائع دائما، النهم للمال، الوقح الذي لايشبع أبدا.
فتح ُالباب فدخل النور، يخدعني بأن حرية قريبة سوف تأتي، دفعوا لي طبقا من طعام أسود ذو رائحة نتنة، وأغلقوا، لم يعد للصراخ فائدة، يجب أن أتقبل نهايتي واعتبر نفسي مت نهائيا.رغم كل الأصوات المخيفة حولي.
رأيتها..لمحتها..نعم هي هي...استقبلتها بحرارة الملهوف، رأيتها في الطريق تتلمس الجدران تذكرت كم بنيا صروحا من حرير، كيف تهاوت علي رنات الهروب من وطن جريح، كنت متسائلا بفضول قاتل بعد تحبة باردة ونظرات تتذكر كل شيء باستغراب وكأنه حدث البارحة:
-أعدتِ فعلا؟
-نعم عدت وقد اتصلوا بي قبل إقلاع الطائرة، أن إقامتي في بلاد الغرب وصلت واكتملت!!!، وعلي العودة لاستلمها، عدت بعد أن أغلقت أذنيّ عن سماع صوت والدي الملهوف الذي كان يصرخ متألما:
-عودي فورا لوطنك، فأولادك مكتومين وأنت شبه عمياء، هو حمار عمل لايتوقف، وأنت خارج اهتمامه، ارخص من نقوده، وعندما دخلت ضرتكِ البيت أقفل عليكِ الباب، وصرتِ منبوذة تماما، بالكاد تأكلين...هل هذا صحيح فعلا؟.
-كيف فعلتِ؟
-أحبه..
صرخت بتعجب:
-ماذا تحبين فيه بالله عليك؟.ماأغباكِ.
-.....كله على بعضه...
-والآن؟
-أكرهه؟
- نعيما، هل هذا هو حب الأفلام؟
-ليس تماما.يشبهه..
-كيف ليس تماما؟؟؟ أجيبيني...
أمسكتها بلا تحكم بنفسي المتهدمة من الداخل، مؤكد كانت تهذي...
أشاحت وجهها عني، وابتعدت، وقد أدهشني أمرها، تلك الذكية اللماحة، كيف تحولت إلى غبية ؟، تلك التي كانت تملك عشرات الاختراعات، .. يالله جل الأذكياء مجانين.
نظرت إلي فاهمة ماكنت سأقوله..عاجزة عن إيجاد رد مقنع، بعد أن تجاوزت الخامسة والأربعين من عمرها..وفاتها قطار الإنجاب..بعد تسع أولاد..فقلت مودعا:
-والآن؟
-لاشيء..
-بل كل شيء..
-قالوا لي أن الزواج التقليدي يكرس التكامل غالبا، فماينقصك يكمله الآخر، ونصف الحياة تعود فالعاطفة قد تدفعنا لمهاوي الموت.. هل أنت مقتنعة بذلك فعلا؟.وسعيدة في حياتك الآن بعد أن فقدت عشرون سنة من عمرك راحت هباء؟.
-الزواج مشروع كبير، تجاري اجتماعي أكاديمي، تتعلمين من خلاله معنى الحياة، في كل حركة وسكنْ، الزواج أمان، رسلة وهدف حقيقي تقدمين من خلاله جيلا بناء يكمل الطريق..
والآن؟
-ماذا أفعل الآن؟.
كنت سأبادرها بسؤال مقابل:
-ماذا أفعل أنا الآن؟.
جاء والدها فأقلها لصرح كبير اسمه جامعة...
تركتها ومضيت..وعلى لساني ألف سؤال، أجلته لإشعار آخر..وقد صار لمفهوم الموت عندي ألف معنى. ماهو الموت الخارجي والموت الداخلي؟؟؟؟.
19-9-2019
نصّ سرديّ بامتياز يستجيب في فنياته وأسلوبه لهذا الجنس الذي يروي ما بالدّاخل من هواجس وأحاسيس..
به توصيف لضيق النّفس وموتها بحكم التقوقع والإنكفاء على الذّات ...
قد تكون التجربة وتغيير المحيط كفيل بمنحها نفسا مغايرا
الاتهميش واغتراب النفس وغربتها عن محيطها والوحدة وربما الإندماج والتأقلم مع المحيط تظلّ كلّها مؤشرات هامة في هذا النّص السردي الممتع رغم شجن مافيه
أسلوب متين لغة خالية من الهنات ...
لنبضك كلّ البهاء
سرد جميل مشوّق بعزفه على أوتار نفس تروم التحرّر في عالم يضجّ بالاختناق
تعبر بنا على توابيت من الحزن والبحث عن الذات
بلغة رقراقة سيّالة كماء زلال، من قلم مثقّف يعرف مجراه
كنت هنا أتعلّم
مواقف عديدة تتنازع النفس ، سلباً أو إيجاباً
الموت الحقيقي هو نهاية للحياة بكل ما فيها
وأما الموت الآخر والذي تتعرض له النفس كثيراً ،
فهو مؤذٍ لها ، وقاتل لمشاعرها ، على الرغم من
ممارسة الشهيق والزفير .
نص سردي جميل ، تناول الآهات والأنات ، وحساب الذات .
شكراً دكتورة ريمة ، وسلم نبضك .
تحياتي
لم أكن أدري، أن هناك حكم بالإعدام بلا موت، وأن الموت حياة جديدة لاتعني الإعدام....
أو أن هناك موت خالٍ من رجفة ماقبل الموت، خالٍ من علامات الموت الحقيقي، من تمدد الوجه وشروقه على غير عادته، حتى ليخيل إليك، أنه مسرور، حتى شخوص البصر له درجات، وانفراج الشفتين له علامات، وقد يبدو مخيفا، فيربط أحدهم الوجه بخرقة مهملة، تبين أنه انتهى تماما، وأنه توقف عن كل نشاط...وترك وراءه عمله، يربطونه لأنه شبع من الحياة ولم يشبع، وربما حتى لاتظهر أسنانه المهترئة، وليحافظ على مظهر موت وقور، حتى أن سقوط القدمين وانخساف الصدغين وانفصال الزندين، قد لاينتبه إليها المكلوم بحادثة موت عزيز، إنما ينتبه لآخر لحظة فقط شاهده فيها، وموقف ملفت حصل حينها عبر ضيق الصدر والحشرجة المريضة.وقد يموت مريضا أو فجأة، أو عبر حادثة طارئة، وقد يرضيك فعله للخيرات في رحلة حياته القصيرة، فتمدحه وقد تمدحه بغير مافيه، لأنك ستفتقده أخيرا...
لم أكن أدري أبدا، أن كل هذا بداية فقط ، فموت إنسان ليس هو الموت الفيزيائي الذي يغيبه أبدا بل موت التهميش، موت الهدر العقلي والروحاني، وموت الغفلة وموت العطلة، ، عموما كان يكفينا خبر موت أي عزيز، لكي نبكي على أنفسنا كثيرا...ماأعرفه من المشاعر المسببة للموت النفسي أن عالم الأفكارالمشوشة التي ستأتينا من تأنيب الضمير والتقصير الذي يجعلنا نقول علنا او سرا:
-ليتنا فعلنا هذا لأجله..ليتنا لبينا رغباته على صعوبتها وإحراجها.
إنها تنبؤمتأخ، عن أن المرء ليس متصالحا مع عالم المشاعرالحقيقية!..
شخصيا لو عدت للوراء زمنيا، لسنوات طويلة، لسألت نفسي طويلا:
-هل كنت سأوافق على تلك الخطوات المنافية لمنطقي وقناعاتي أخيرا؟، و الذي أعلن عنه في كل سلوك؟،فأجد العالم من حولي واسعا منيرا ورافدا وسعيدا؟،أكثر مني.فألوم نفسي لأنني لم أكن جريئا في اتخاذ قراراتي؟، أم سأندم لأنني لن أعود أنا؟.بل أنا شخصية مزيفة خارج جغرافية المنزل وحقيقية داخلا.فالازدواجية والانشطار النفسي شعار الحداثة، لقد صرح الدكتور مصطفى حجازي في وجهنا وفي كتابه الإنسان المهدور:
-كلكم مهدوروا الطاقات والنفوس والمعارف...
نعم أنت مهدور الطاقات داخلا، لكنك تعوض ذلك بالحديث عن ماضيك المشرق، أو عبر حوار متفذلك مفتعل لتغلب من هو أدنى منك خبرة ومعرفة ومنزلة..!
لكأن حبل المشنقة الآن غير محكم على رقبتي!..فالواقع معقول حولي أو خلته كذلك، لتأقلمي مع انزياحاته، وكنت لم أبلغ من العمر عتيا... وهاتفي النقال يحمل أغانٍ ممنوعة، وصوت رنة هاتفي تحمل صوتي الصداح بالحكم القديمة وإضاءة شاشته منيرة جدا وساطعة أحيانا وأحيانا كثيرة لاترى، وأحب النزهات ولقاء الناس، وأحب أن أرتدي ما يثبت نظافتي، وأتناول الطعام الصحي ربما أناقش قليلا وأناصر رأيي...ورأي الناس يهمني جدا، لأعرف من أرافق، لكنني لاأحب الزحام، ولا أنصاف الناس، ومازالت أمور عديدة تبهرني وتثيرني...هل هذا يعني أنني في منتصف العمر؟ فمازلت مكترثة بمن حولي ولو قليلا...ولكن لماذا حكم علي بالإعدام؟.لم يجبني أحد حتى الآن!.لكأن هناك سعادة وتعاسة مترافقة معا كالظل، لم تكن كاملة يوما ما، وهذا سبب تقلبها للطرف الآخر!...فكيف نثبتها؟ألا يوجد لها مقياس كالغرام والكيلو؟. فنقيس حجم سعادتنا ونعدل الكفة ببعض المغريات، أو نعدل سعادتنا خوف الاندفاع الفارغ ، فنشرب قرصا مخففا؟ فنتوازن!.
مازلت لاأفهم، لماذا دفع بي والدي لبلاد الغرب؟ ولم أكمل تعليمي بعد، فلم أكن قد تجاوزت الصف الثالث الإعدادي؟، لن أعود مهما فعلوا..فأنا أعمل وأسوق السيارة، فماشأني بالعلم؟.ورغم هذا مازلت وحيدا، أريد أن أقضي حاجتي وحدي، لكن أحدا ما لايسمعني...فتنهال النصائح من كل حدب وصوب تسيل في أذني سيولا حتى الطرش، هل أموت وأنا أحتاج لتفريغ مثانتي مثلا؟، وحيدة في الدنيا ووحيدة في الموت، وربما لا أجد نفسي وحيدة بعدئذ...لعل صبري يأتي بخير،لم لست آسفة لموتي؟ لن يصدقني أحد...أنني بريئة..الغريب أنهم قرروا أن يميتوني بجميع الأنواع!وهل سأموت على مراحل؟..!!لو يعرفوا أنني مت قبلها مئات المرات، منها عندما كنت في بلاد الشمال عندما كانت سيارتي مظللة النوافذ باللون الأسود، حيث أخرجني شرطي منها، قائلا لصديقه:
-هذه السيارة التي كنا نبحث عنها، وجنسيته العربية التعسة تثبت المعلومة، فكوا حزامي الجلدي دكوني في سيارتهم مكبلا، وهم يتفحصون السيارة بدقة جدا، وكلاب تنبح حولها...وبعد وقت غير قصير، كنت فيه تلوت القرآن كاملا عدة مرات غيبا ، فاجأتني نفسي بذلك فعلا ، ولم أدر انني حفظته عن ظهر قلب ،وتلوت الفاتحة وذكرت الشهادتين لأموت مرتاحة بلا ديون..اقتربوامني رويدا رويدا محتارين، تأسفوا قائلين بلغتهم:
-كنا نعتقد أن سيارتك مفخخة كما وصلنا، نحن نعتذر جداجدا، وإن وجدت أن تشكونا للسلطات فافعل نحن نستحق، لكن صدقنا كنا نطبق التعليمات فقط، خرجت كالمنتصرة، وكنت أعتقد أنني مت فعلا، حيث أن الشكوك كما أعرف وحدها قد تعدمك حياتك، تحاصرك وتضع إصبع الاتهام في عينيك فتعميها، استرددت كرامتي من جديد بإرادتي، ورغم عدالتهم الواضحة وصدقهم، تذكرت أنها غالية جدا، خاصة أن مخالفة السير عندهم قد تتجاوز النصف مليون في عملتي المحلية...عدت للحياة من جديد ، وتوقف خفقان قلبي، بل عاد قلبي للحياة بعد أن كاد يتوقف..كيف أن سيرتي الحميدة في بلادي تتحول إلى وحش في الغربة!.فليعدموني، خاصة أنني غدوت وحدي في هذه البلاد، رحلت أرواح أهلي للسماء، بسبب مجانين يتقاتلون بلا هدف واضح، ربما سمعوا صوت الصدى من بعيد، فسبب لوثة في عقلهم، أو جرثومة كانت في الهواء فدخلت من منخارهم!.فعطبت دماغهم.
مابقي منهم سوى حفيدة ذات أربع سنوات، شقراء بريئة، تربت تحت جناح صدقات الجمعيات الخيرية، فلم أكن حينها أبات سوى في نصف منزل مهجور تهدم نصفه، وعند البرد كنت أضمها لصدري حنانا، كانت تناديني مرة ماما ومرة بابا!.
حتى اختارها ذاك المرض الماكر، فأنفقوا علينا مالهم صدقة لعلاجها، كانت تتقيأ، يسقط شعرها تنظر إليه وتبكي، أواسيها بأنه سيخرج أجمل منه بعد شفائها، أشقر أجمل وأكثر لمعانا ذهبيا، أتذكر عند أخر حقنة مخدرة أعطيتها إياها، نظرت إليه قائلة:
-أنا أحبك جدا، لأنك تطرد الألم..
عندما هدأت تماما، ذهبت إليهم قائلا:
-لاداع لمالكم، شكرا لكم لقد ماتت..
عدت لتلك الجدران المتهدمة أبكي وحدي..أليس هذا هو الموت بعينه؟.أن تشعر بللاشيء حولك..دوما كنت أخاف من الغرف المغلقة، ومن العقول المغلقة التي لاترى سوى مايهمها، كل الحسناوات لم تقبل بي زوجا، لأنني بت شابا أصلع وبدينا بعض الشيء...نعم أنا ذكر....هذه هي الحقيقة الآن..
لو كان للغرف المغلقة نافذة صغيرة فلابأس، فأمي لم تكن تجعلني أخاف من شيء، بل دفعتني لأجرب كل مايمكن تجريبه وأنا صغير، ولكن حرائقا في طريقي عندما صرت يافعا، لم أستطع إخمادها، قالوا لي ابتعد عنها فقط، فالناس باتوا عبارة عن عقد نفسية تمشي في الطريق، حتى المتسلط منهم، ذلك الجائع دائما، النهم للمال، الوقح الذي لايشبع أبدا.
فتح ُالباب فدخل النور، يخدعني بأن حرية قريبة سوف تأتي، دفعوا لي طبقا من طعام أسود ذو رائحة نتنة، وأغلقوا، لم يعد للصراخ فائدة، يجب أن أتقبل نهايتي واعتبر نفسي مت نهائيا.رغم كل الأصوات المخيفة حولي.
رأيتها..لمحتها..نعم هي هي...استقبلتها بحرارة الملهوف، رأيتها في الطريق تتلمس الجدران تذكرت كم بنيا صروحا من حرير، كيف تهاوت علي رنات الهروب من وطن جريح، كنت متسائلا بفضول قاتل بعد تحبة باردة ونظرات تتذكر كل شيء باستغراب وكأنه حدث البارحة:
-أعدتِ فعلا؟
-نعم عدت وقد اتصلوا بي قبل إقلاع الطائرة، أن إقامتي في بلاد الغرب وصلت واكتملت!!!، وعلي العودة لاستلمها، عدت بعد أن أغلقت أذنيّ عن سماع صوت والدي الملهوف الذي كان يصرخ متألما:
-عودي فورا لوطنك، فأولادك مكتومين وأنت شبه عمياء، هو حمار عمل لايتوقف، وأنت خارج اهتمامه، ارخص من نقوده، وعندما دخلت ضرتكِ البيت أقفل عليكِ الباب، وصرتِ منبوذة تماما، بالكاد تأكلين...هل هذا صحيح فعلا؟.
-كيف فعلتِ؟
-أحبه..
صرخت بتعجب:
-ماذا تحبين فيه بالله عليك؟.ماأغباكِ.
-.....كله على بعضه...
-والآن؟
-أكرهه؟
- نعيما، هل هذا هو حب الأفلام؟
-ليس تماما.يشبهه..
-كيف ليس تماما؟؟؟ أجيبيني...
أمسكتها بلا تحكم بنفسي المتهدمة من الداخل، مؤكد كانت تهذي...
أشاحت وجهها عني، وابتعدت، وقد أدهشني أمرها، تلك الذكية اللماحة، كيف تحولت إلى غبية ؟، تلك التي كانت تملك عشرات الاختراعات، .. يالله جل الأذكياء مجانين.
نظرت إلي فاهمة ماكنت سأقوله..عاجزة عن إيجاد رد مقنع، بعد أن تجاوزت الخامسة والأربعين من عمرها..وفاتها قطار الإنجاب..بعد تسع أولاد..فقلت مودعا:
-والآن؟
-لاشيء..
-بل كل شيء..
-قالوا لي أن الزواج التقليدي يكرس التكامل غالبا، فماينقصك يكمله الآخر، ونصف الحياة تعود فالعاطفة قد تدفعنا لمهاوي الموت.. هل أنت مقتنعة بذلك فعلا؟.وسعيدة في حياتك الآن بعد أن فقدت عشرون سنة من عمرك راحت هباء؟.
-الزواج مشروع كبير، تجاري اجتماعي أكاديمي، تتعلمين من خلاله معنى الحياة، في كل حركة وسكنْ، الزواج أمان، رسلة وهدف حقيقي تقدمين من خلاله جيلا بناء يكمل الطريق..
والآن؟
-ماذا أفعل الآن؟.
كنت سأبادرها بسؤال مقابل:
-ماذا أفعل أنا الآن؟.
جاء والدها فأقلها لصرح كبير اسمه جامعة...
تركتها ومضيت..وعلى لساني ألف سؤال، أجلته لإشعار آخر..وقد صار لمفهوم الموت عندي ألف معنى. ماهو الموت الخارجي والموت الداخلي؟؟؟؟.
19-9-2019[/QUOTE]
الــســرد (هنا) بألوان قوس قزح..أشياء القص وأي جنس ادبي آخر
لو دخل ما بين هذه الأمواج لتحطم واختفى وكأنه لم يكن ..يُنسى وكأنه
لم يكن..ولم يحاول.. لكنه بطعم مختلف هذا السرد الذي أعادني الى النص
السابق (قبلة الحياة) والذي ارتكز على أدوات القص دون المساس بروعة
وعذوبة السرد الذي يشبه سلسلة فضية طويلة، بحلقات مترابطة تمر من الماء
دون ان تخدش لونه وصفاء نواياه..
مجموعة من الأحداث التي تتسلسل..وأحيانا تعيدك للخلف أو تدفعك كثيرا للأمام
قاطعة عليك تسلسلها، وكأنها تريدك ان تكون أكثر انتباها عند نقطة محددة،ودقيقا
في تصويرها بعدة لقطات مختلفة الأوضاع والزوايا..فتركيب المشاهد الصعبة لا شك
أنه الأكثر صعوبة ..يحتاج إلى انفلات ودفع أقوى باتجاه نقطة مرتفعة عندما تصلها
ترمي بما كنت تربط فيه انفلاتك الأول..الثاني..التاسع.. ولماذا الشهر التاسع..لماذا
تتكرر الأرقام (بيضاء) تماما..لا زمن ولا مكان..وكأنها فقط..للثلج والأكفان.!!
كل هذا الازدحام ..ويقول النص: {قبيل لحظة الإعدام.....} ماذا لو كان (قبل) ماذا
لو كانت أياما وسنوات..وكأنها كذلك ..لكنها مهما طالت ستبقى أقصر من أن تُشكلها كيف
تشاء..من أخطر أسئلة هذا النص: كم عدد الأصوات التي سمعتها سواء من الداخل أو
الخارج.. لكن السؤال الأصعب هو: كم شخصا رأيت في هذا النص.!!
عن نفسي سأحاول الإجابة ولكن حين أعود إلى قراءة جديدة قد تحمل معها أسئلة جديدة
النصوص الراقية أكثر استهلاكا للأسئلة ..الأسئلة (أوكسجينها) الذي يفك حبل المشنقة
ويبقيها على قيد الحياة.
البداية كانت ثقيلة جدا د. ريمه ..وتصوير أوضاع الموت وأشكاله كان يحتاج إلى اختصار
على الأقل هكذا شعرت ..وبرأيي المتواضع: الشرح المباشر كاد ان يقتل (بذرة الحياة) التي
أردت من القارئ غرسها قبل الدخول إلى (الموت) وجره إلى خارج المشاهدة الممتلئة بالمشاعر
والأحاسيس، فعدم وجودها يعني انهيار الجسور الصغيرة المعدة لانتقال المتلقي من مشهد الى آخر
وقد أكون مخطئا..فدروب هذا النص معبدة بالاجهاد..
الأديبة المبدعة د. ريمه خاني
سلمتم وسلمت روحكم الناصعة محلقة
احترامي وتقديري
التوقيع
قبل هذا..ما كنت
أميـــز..
لأنك كنت تملأ هذا
الفراغ..صار للفراغ
حيــز.!!
نصّ سرديّ بامتياز يستجيب في فنياته وأسلوبه لهذا الجنس الذي يروي ما بالدّاخل من هواجس وأحاسيس..
به توصيف لضيق النّفس وموتها بحكم التقوقع والإنكفاء على الذّات ...
قد تكون التجربة وتغيير المحيط كفيل بمنحها نفسا مغايرا
الاتهميش واغتراب النفس وغربتها عن محيطها والوحدة وربما الإندماج والتأقلم مع المحيط تظلّ كلّها مؤشرات هامة في هذا النّص السردي الممتع رغم شجن مافيه
أسلوب متين لغة خالية من الهنات ...
لنبضك كلّ البهاء
مواقف عديدة تتنازع النفس ، سلباً أو إيجاباً
الموت الحقيقي هو نهاية للحياة بكل ما فيها
وأما الموت الآخر والذي تتعرض له النفس كثيراً ،
فهو مؤذٍ لها ، وقاتل لمشاعرها ، على الرغم من
ممارسة الشهيق والزفير .
نص سردي جميل ، تناول الآهات والأنات ، وحساب الذات .
شكراً دكتورة ريمة ، وسلم نبضك .
تحياتي
إن ألوان التعبير عن عوالج النفس، تختلف بختلاف عمق الألم.
بوركت وسلم النبض.
الــســرد (هنا) بألوان قوس قزح..أشياء القص وأي جنس ادبي آخر
لو دخل ما بين هذه الأمواج لتحطم واختفى وكأنه لم يكن ..يُنسى وكأنه
لم يكن..ولم يحاول.. لكنه بطعم مختلف هذا السرد الذي أعادني الى النص
السابق (قبلة الحياة) والذي ارتكز على أدوات القص دون المساس بروعة
وعذوبة السرد الذي يشبه سلسلة فضية طويلة، بحلقات مترابطة تمر من الماء
دون ان تخدش لونه وصفاء نواياه..
مجموعة من الأحداث التي تتسلسل..وأحيانا تعيدك للخلف أو تدفعك كثيرا للأمام
قاطعة عليك تسلسلها، وكأنها تريدك ان تكون أكثر انتباها عند نقطة محددة،ودقيقا
في تصويرها بعدة لقطات مختلفة الأوضاع والزوايا..فتركيب المشاهد الصعبة لا شك
أنه الأكثر صعوبة ..يحتاج إلى انفلات ودفع أقوى باتجاه نقطة مرتفعة عندما تصلها
ترمي بما كنت تربط فيه انفلاتك الأول..الثاني..التاسع.. ولماذا الشهر التاسع..لماذا
تتكرر الأرقام (بيضاء) تماما..لا زمن ولا مكان..وكأنها فقط..للثلج والأكفان.!!
كل هذا الازدحام ..ويقول النص: {قبيل لحظة الإعدام.....} ماذا لو كان (قبل) ماذا
لو كانت أياما وسنوات..وكأنها كذلك ..لكنها مهما طالت ستبقى أقصر من أن تُشكلها كيف
تشاء..من أخطر أسئلة هذا النص: كم عدد الأصوات التي سمعتها سواء من الداخل أو
الخارج.. لكن السؤال الأصعب هو: كم شخصا رأيت في هذا النص.!!
عن نفسي سأحاول الإجابة ولكن حين أعود إلى قراءة جديدة قد تحمل معها أسئلة جديدة
النصوص الراقية أكثر استهلاكا للأسئلة ..الأسئلة (أوكسجينها) الذي يفك حبل المشنقة
ويبقيها على قيد الحياة.
البداية كانت ثقيلة جدا د. ريمه ..وتصوير أوضاع الموت وأشكاله كان يحتاج إلى اختصار
على الأقل هكذا شعرت ..وبرأيي المتواضع: الشرح المباشر كاد ان يقتل (بذرة الحياة) التي
أردت من القارئ غرسها قبل الدخول إلى (الموت) وجره إلى خارج المشاهدة الممتلئة بالمشاعر
والأحاسيس، فعدم وجودها يعني انهيار الجسور الصغيرة المعدة لانتقال المتلقي من مشهد الى آخر
وقد أكون مخطئا..فدروب هذا النص معبدة بالاجهاد..
الأديبة المبدعة د. ريمه خاني
سلمتم وسلمت روحكم الناصعة محلقة
احترامي وتقديري
تهمني وجهة نظرك ، وبقوة، وفعلا يمكن اختصار بدايات النص، لكنه باختصار يحكي عن الميتات الملونة، التي نراها موتا واحدا...
شكرا لك.