التربية والتفكير في نص "آداب سامية" للسادس الابتدائي
(1)
في كتاب اللغة العربية الشارح ص69 تجد الآيات الثلاثة الآتية من سورة لقمان.
قال تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 17 - 19].
وقد أحسن معدو الكتاب اختيار هذه الآيات.
لماذا؟
لأنها تتصل بالتربية وأصولها اتصالا مباشرا، وبالعلوم ذات الصلة من علم اجتماع وعلم نفس تعليمي وعلم نفس معرفي، و... إلخ، وكذلك بالتفكير وطرق تنميته.
كيف؟
يقول تعالى على لسان "لقمان": {يَا بُنَيَّ}.
و"بُنَيّ" في اللغة تصغير "ابن"، وللتصغير أغراض منها التحبب والتودد والتدليل. وهنا يُظهر الأب حبه من لحظة البدء، ولا يكتفي بمعلومية ذلك؛ إذ حب الأب ولده بديهة إنسانية يعرفها الكبير والصغير، لكنه يُبْرِز هذا المعنى حتى لا يغيب عن مسار الحديث، ويظل محيطا به مغلفا إياه.
وإن إعلان الحب الحلال سنة إسلامية، وقد ورد ذلك في سنن أبي داود في الرواية التي حسنها الألباني:
5127 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِىُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً كَانَ عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى لأُحِبُّ هَذَا. فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: أَعْلَمْتَهُ؟. قَالَ: لاَ. قَالَ: أَعْلِمْهُ. قَالَ: فَلَحِقَهُ، فَقَالَ: إِنِّى أُحِبُّكَ فِى اللَّهِ. فَقَالَ: أَحَبَّكَ الَّذِى أَحْبَبْتَنِى لَهُ.
ولم يكن إظهار الحب سنة إسلامية إلا لأنه يجعل المجتمع متماسكا، والجماعة متراصة كأنها بنيان مرصوص. وإن شاعت هذه التربية التي يحرص فيها المربِّي على إظهار حبه للمربَّى فإن ذلك يوطد العلاقة بينهما، ويرفع القابلية للتعلم. وقد سلك الرسول ذلك بنفسه كما ورد في سنن أبي داود في الرواية التي صححها الألباني:
1524 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ مُسْلِمٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِىُّ عَنِ الصُّنَابِحِىِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ: يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّى لأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّى لأُحِبُّكَ!. فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ، لاَ تَدَعَنَّ فِى دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّى عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ.
إذًا، إظهار الحب قبل النصح سنة قرآنية اقتدى بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وعلينا أن نمارسها مع من حولنا حتى نهيئهم للاستماع الحسن والقبول الطيب.
(2)
وبعد أن أعلمه بما يعلمه سابقا من حيه إياه وجعله يقينا ظاهرا معاشا بدأ بالنصائح التي لا تخرج إلا من محب إلى محبوب مرادٌ له التميز ومَخُوفٌ عليه من الرَّدَى.
قال الأب :" أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ".
لم يفصل الأب بين عبادة ومعاملة؛ فالإنسان في الإسلام تؤثر عبادته في معاملته وإلا اعتورها النقص، والمعاملة تدل على العبادة، بل العبادة جزء من العبادة التي مفهومها هو "كل ما يحبه الله من الأقوال والأعمال".
ولم يسهب الأب في نصائحه، بل أكبر في ابنه الفهم والتجربة في الحياة؛ فجمع له أصول الأمور في ثلاثة نصائح هي: إقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحمل نتيجة ذلك بالتزام الصبر.
إن إقامة الصلاة تقتضي القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن أداء هذا الواجب الاجتماعي يؤدي إلى أمور لا تحتمل إلا إن وطَّن المرء نفسه على الصبر؛ لأن ذلك من الأمور ذات العزيمة التي ترفع ذكر صاحبها وتُكسبه صفات القوة الاجتماعية والنفسية.
لم يغش الأب نصحه ولم يخدع ولده، بل أبان له أن ما ينصحه به ليس سهلا، ولن يمر مرورا هينا بل سيكون له نتائج اجتماعية قد تسبب له ما يضايقه ويضجره لولا تحليه بالصبر.
وهذه هي التربية الجادة التي تقوم على أداء الواجب وتحمل النتيجة في صبر وقوة، وليست هذه سر قوتها فقط، بل ينضاف إلى ذلك تقدير تفكير الابن.
كيف؟
ببيان العلل والنتائج له؛ فـ" وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" تضع له أساس التصرفي الحياتي، وتقيه الانهزام النفسي.
لماذا؟
لأن الاستمرار على ذلك من الأمور المحمودة التي تكسب صاحبها مدحا اجتماعيا، وقوة نفسية، ونصاعة تفكيرية.
(3)
أمره بالأشياء النفسية والفعلية التي تكسبه القوة والصلابة، ثم كان من مُتِمّات الأمر أن يظهر له الجانب الآخر السيئ؛ ليحذره منه تحذيرا صريحا غير مكتفٍ بالتحذير المتضمَّن في الأمر السابق.
ماذا قال هل في التحذير الصريح؟
قال: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}
إن من يؤدي صلاته لا يعرف الكبر، وإن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لا يعرف الخيلاء والتكبر، ولا يفعل ما من شأنه أن يغري به الآخرين تقليلا من شأنه من تميز بالصوت الصاخب أو السير غير المتزن.
وفي سورة الإسراء يذكر الله تعالى أن الإنسان لا يمتلك ما يؤهله للتكبر؛ فشأنه أضعف من التكبر وأقل من الخيلاء، فيقول: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37].
إن هناك مخلوقات أعظم منك خاضعة لله تعالى، وإنك لو ضغطت الأرض أكبر ما يكون فلن تحس بك الأرض، ولن تخرقها، وإن مهما تطاولت متكبرا فلن تبلغ الجبال طولا.
ولا يسرد له النواهي سردا غفلا بل يمزجها بالدلالات التي تجعله ينفر منها، وليس هو وحده بل كل ذي فطرة صحيحة ونفس سوية.
ماذا فعل ليحقق ذلك؟
ربط بين التكبر وبين داء الصعر الذي يصيب عنق الإبل فيجعله ذلك يتخيل بعيرا مصابا، وربط بين الصوت العالي وبين الحمار؛ فمن يحب أن يشارك الحمار في خصلة ما؟