موت العاشق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قاسم فنجان
(عزاءً له )
ألمُ ألَمَ به قاده ليموت وحيداً في المشفى الجمهوري،على سرير ملاءاته المتسخة بالذكريات ،يرنو بوجه شوهته النار إلى الخلاص،ليس هناك سوى وجيب قلب يمّرح باحتضار في خواء معقم بالديتول،خواء ثقيل يدفعه للتأمل في خواء روحه الأثقل ، يرى في سكونه أشباح لذكريات سالفة، ترصّع مراراتها وجه أسئلته اللاسعة،توخزه بقلبه فتتقاطر ذكرياته ثقيلة كالعزاء،مع سريانها البطيء تتقدم عوالمه الغابرة إلى الأمام،طفولته وصباه وشبابه المنكسر الرتيب،يزحفون معاً متسربلين بذات الألم العتيق،يتسربون تباعا في جوف حياته الملتهبة،فينفلت من كل هذا الضيق بصرخة تدوّي في الفضاء العطن للردهة البيضاء
آه
على أثرها تلج المرأة الى حياته المحترقة،تدخل و تنظر بعينيها المترقرقتين بالدمع في الهشيم المسجى على السرير،تدنو منه فتلطمها بقوة رائحة الشواء الآدمي،تتجشأ مبقعة البلاط الأبيض ببقع تتصاعد منها أبخرة الحسرة عليه،تبركُ منكسرة أمام سريره وتقول
لماذا ؟
ماذا ؟ قالها وهو يجاهد بإزالة القذى من عينيه المتورمتين بالرماد.
ألا تعلم ؟
يعلم كيف كانت تحاصر قلبه وتجتاحه بحب عاصف لا يقوى على الاعتدال أمام أعاصيره الهوجاء،فالمعلم العاشق تنازعته المصائب منذ أن حطت في رأسه تلك البذرة الساحرة من الهيام،لم يكن قد جرب دمه الصافي بعد مرارة المرأة وضوع شبقها الملعون،لذلك كان يندفع بكل ما أوتي من جوع في جسدها المملوء بالأزاهير، يغرف منها رحيق سنواته الجائعات و يغرس في كل فسحة من حياته زهرة بلون النار .
النار ، النار ، النار ، اندلعت النار من جسده ،اندلعت النار.
قال مَن كان على مقربة من احتراقه الأخير بضيق واضح.
كانت ألسنة النار الحمراء تلتهم الهواء وتضيّق الفضاء على جسده المستجير،ترسم تموجاتها الراقصة أشكالاً لمسرات غابرة،تملّتها عيناه الخائفتان بفرح وانشغلت بها عن أوجاع النار.
كان يتألم حتماً ، سأل أحدهم ؟
بل كان يضحك،أجاب من أخلاه من الغرفة الملتهبة قائلاً .
بعد أن تلكأت عجلة الإسعاف عن الحضور، خلت نفسي غائصاً في متاهة شاسعة, أأحمله وأمضي أم أمضي وأخلفه وليمة لجوع النار،حملته ومضيت به مهرولاً صوب الشارع الرئيسي ،على مشارف الجسر المطل على المشفى استوقفني صوته .
انزلني ؟
أنزلته فقال ألا ترى ؟
ماذا؟
جلد جديد سينبثق من باطني المحروق .
قالها والنار مازالت منهمكة في لحس ماتبقى من جلده المهروس بالرماد،كان للمشهد المروّع روع كما لو كان الجسد المسمّد بالسخام أرضاً محروقة .
توقف ؟
لن أتوقف، قلت ، بل سأخطو بك.
خطونا معاً بهدوء صوب البوابة العريضة للمشفى،دفع الشرطي الباب من منتصفه بقوة فصّر الباب بصرير تناهى إلى قلبي كالنشيج ,وقف الجميع يتأملون بانبهار هذا الجسد الملبّد بالنار وهو يخطو غير عابئ بأوجاعه العظيمة.
هذا سجن ، قال .
بل مشفى ، قلت .
بل سجن وسجان ومسجون .
هل كنت مسجونا ؟
أجل،منذ أن أصخت السمع لأمي وهي تقطّر في فمي الصغير حليب مصيري الأسود، كنت أسمعها تقول.
كنت مسجوناً ياولدي في زنزانة بطني حتى حررتك كف قابلة محروقة،ما أن امتدت كفها المشوهة إلى رحمي الرقيق حتى بكيت .
بكى فأنكفأت أمه بحنان عليه،دسّت رأسه الصغير في حضنها الرحيم،شدته برقة نحو ثدييها الناشفتين مسربلة جسده العليل بروائح ما إن تشممها حتى استكان و نام.
هل نام ؟ قال الشرطي المرافق له في المشفى وهو يدفع بجسده الباب الموارب للردهة.
أجل نام ، قالت المرأة وهي تطالع المكان الذي صار خالياً إلا منهما .
نام ولم يتبق سوى بصيص نور خافت،ينفد من ثقب في النافذة الموصدة،يرتد الضوء من الجدار المقابل للسريرعلى السرير،يضيء الوجه المخدد بالرماد،تتأمله المرأة بحزن وتدنو منه كثيراً،تقبّله من جبهته وتنتحب عندما ترى شفتيه المرتعشتين تترنمان بهمسات تتناهى إلى روحها المستعرة كالنسمات،تلوذ بوجهها عنه فتتفجرُ ينابيع الحزن من داخلها المأزوم بالأسى،يتعالى حزنها مزلزلاً قيعانها الهادئة بالدموع ،تبكي ويحفزها البكاء الثقيل على سؤال ما انفك يتصادى في داخلها كالحريق.
لماذا حرقت المسجد ؟
لم أحرقه،كنت عازماً على ذلك لكن الحارس اعترضني فهويت بالمعول على رأسه .
هل مات الحارس؟
كيف يموت ومعوّلي لم يصل إلى رأسه قط .
عندما حاقت عدوى الفتنة بالمدينة المفجوعة وخيّم شبح القتل المخيف عليها،لزم الناس بيوتهم في الليل والنهار،شُلت الحياة تماماً واقتصرت على القاتلين من الأشقياء أما الأبرياء المغدورين فكانت حصتهم الموت بقسوة في العراء،كان يرى المعلم وجوه الجثث البريئة ترنو إلى السماء الساكنة وفي أعينها أسئلة حيرى،تتملى عيناه الحزينتان وجوههم الساهمة وتتسرب نظراتهم الآسية إلى داخله المتخم بالوجع،يهدهد رؤوسهم المثقوبة في حجره الأمين ويصرخ
لماذا؟
يغيبُ رجع سؤاله المستحيل في الفضاء المعجون بالعفن،تغيّبه أشباح الخوف المنتشرة في القلوب فيعلن أمام الأهل عن نيته في طمر الشر بالنار ووضع حد للموت المجاني .
بالنار؟ يقول أبوه الحزين مستفهماً من صاحبه الوحيد.
وهل حرق المسجد ؟ تقول أمه الحزينة الخائفة .
لا لم يفعلها المسكين فحينما دخل المسجد ومن يده اليمنى تتدلى شعلة النارالصغيرة,داهمته أيادٍ عديدة لم يرَ مِن أيٍ الأماكن باغتته، حملت عليه بما تيسر لها مِن أسلحة وهوت عليه بقسوة ولم تتركه إلا وهو طريح يتضرج بدمه الأحمر.
أوثقوه جيداً،قال شيخ الجامع الضرير.
حملته ذات الأيادي بعد أن أوثقته بالحبال بعيداً ليرى نفسه وحيداً يقعي خلف قضبان سجن لا يتذكر فيه مَن اقتاده أو مَن أوصله ليُدرك عندها الجميع إن المعلم الحكيم قد صقعته لوثة الوضع المرير وأحالته إلى مجنون خطير.
إنه مجنون ياسيدي ومصاب بالفوبيا .قال المحامي حسب علمه القليل بحالته المضطربة .
لا فوبيا ولا بطيخ ،إنه مدعٍ ومتمارض وإرهابي. قال طبيب السجن وهو يشير إلى مدونة التقرير وعيناه تسترقان النظر بين لحظة و أخرى إلى العينين الموثقتين إلى جسد مغلول من معصميه في قفص الاتهام .
أحيلوه إلى سجن التسفيرات المركزي في العاصمة ،قال القاضي بعد أن اطلع على التقرير .
سأرافقه قال الشرطي المريب صاحب الخبرة الخارقة في نقل المتهمين الخطرين من المدينة إلى سجن العاصمة المركزي .
أضحى الطريق إلى العاصمة كمين خطير لا فرصة فيه للنجاة أبداً فالجميع هنا مشمولون بالقصاص الطائفي حسب الدين والهوية،سيطرات وهمية تقطع الطريق على العجلات لتجّر من باطنها المجوف بالرعب الضحايا إلى مثابة للذبح غالباً ما تختفي خلف أجمة أو ربوة،تجّز رقابهم المرتعشة بوحشية وتعّلق الرؤوس على رماح مغروسة على جانبي الطريق دلالة للترويع.
يشاهدها المعلم المأفون ويبتسم لها كثيراً،تلّوح يداه المرتعشتان لها وتدعوها للترجل من صهواتها،تتململ الرؤوس العالقة بالرماح وتنطلق مخترقة فراغ النافذة صوب رأسه الصغير،تحط مجلجلة بدمها الطازج في رأسه وتمور بأسئلتها الصاخبة في دمه، توجعه استغاثاتها المنكسرة ويربكه لهاثها المرير،يتلوى من غرابة الحال وقسوته فيأمر جسده بالانفصال،ينفلت من كرسيه ويحاول الفرار من النافذة، ينكفئ الشرطي عليه ويوثقه من يديه ويأمرني بالارتماء عليه،أرتمي بجسدي وأرى في نظراته المتوسلة الحزينة هول سؤاله الموجع يتردد
لماذا ؟
لاشيء إنهم دُمى،أقول.
دُمى.
أجل دُمى فحسب .
تغادره نوبة الهيجان العارمة ونغادر أنا والشرطي جسده المسحوق ،نتركه يتأمل في النافذة الموصدة وشفتاه تتمتمان .
لاشيء سوى المدى المفتوح على الخواء.
لاشيء سوى فجر أعور.
لا شيء سوى شمس عمياء لن تأذن لي بالوصول قط.
لقد وصلنا ، قلت.
هل وصلنا حقاً ؟ قال
أجل وصلنا .
وصلنا بعد أن أنقذنا دهاء الشرطي الحاذق إلى العاصمة التي لم يكن حالها أفضل من حال الطريق المرعب،فحرب الطائفتين تفاقمت واستشرى خطرها ليشمل كل شبر في المدينة التي أحالها القتل إلى مدينة ميتة لايقطنها إلا الأشباح .
هل هذه بغداد ؟قال.
أجل إنها بغداد و هذا سجنها الكبير.
سجن مترامي الأطراف بلاحدود فيه استشرت الخطايا كالأورام الخبيثة معطنّة فضاءاتها الصافية بأفكار ملتاثة بالجنون ،حطت بغوغائيتها في رأس المعلم العاشق جداً للحياة لتصيبه بعطب مزمن وخطير،تزحف بخرابها العظيم صوب مسارب روحه البيضاء مجرجرة معها حُزم الأمراض الغريبة لتنسفَ باضطراب شديد ماتبقى له من اتزان قديم .
سيألب هذا المعتوه علينا السجناء لنتخلص منه فوراً ، قال زعيم الطائفة الأولى في السجن .
لا تخف سندرأ عنك شرهم،قال له زعيم الطائفة الثانية في نفس السجن بعد أن انحى باللائمة على الطائفة الأولى .
تحول المعلم المجهول إلى ذريعة لحرب أشعل الطرفان إوارها في خلسة من إدارة السجن النائمة،اشتبك المتنازعان ليلاً متخذين من سكون الليل و عتمته ستاراً لاستكمال معركتهم التي لم تُحُسم نتيجتها في الخارج ،هاج الداخل فجأة بالحرب وتصاعدت الشعارات مزلزلة هدوء السجن بالصرخات،مات الكثيرون بلا سبب ودفع الحال المخيف الإدارة لإعلان حالة الطوارئ وطلب المساعدات من السجون المجاورة ،وصلت القوات المدججة بالأسلحة لمكافحة الشغب الهائج،باغتت الطائفيين المنهمكين بالقتل في زنازينهم المبقعة بالدم، فكّت اشتباكاتهم العصّية بضراوة البارود حتى نَجم عن هذه العملية الجريئة الكثير الكثير من الأموات،روعّت الخسائر البشرية حكومة السجن وقررت بالإجماع البحث عن رأس الفتنة،أشار الناجيين جميعاً بأصابع الإدانة إلى الأعلى،رفع الجميع رؤوسهم عالياً،كان المعلم مفترشاً بهدوء ناصية النافذة العلوية لجدار السجن العالي،يطل من خلالها على السماء الزرقاء الصافية للعاصمة المنكوبة ويحلم مع العصافير الطائرة في الهواء بوجه الحرية البيضاء.
كل شيء فيه يدل على أنه فقد عقله تماماً،أشار طبيب السجن المركزي بسماعته إلى الأعلى .
لا إنه متمارض ويجب أن ينال قصاصه العادل ، أنزلوه ؟ قال آمر السجن صاحب الوجه المتجهم .
في المحجر في تلك الحجرة المظلمة الضيقة وجد المعلم نفسه منفرداً بأوجاعه في خلوة مريرة،يحاورها من اجل الخلاص فترشده إلى الجوع و العطش ، أضرب عن الطعام و الشراب وراح يتضاءل مع تقادم الوقت حتى استحال في النهاية إلى هيئة شبحية مفزعة ، هيئةٌ روعَت مدير السجن الجديد فأمر بإحالته على الفور إلى مصحة الشماعية *.
جاء الخلاص مع خيوط الفجر الأولى عندما قرعت كف المضمد السمراء باب الردهة الموصد،غادرت المرأة كرسيها الملاصق للسرير و فسحت الطريق للمضمد الذي استل على الفور مشرطاً فضياً وكمامة خضراء من صدريته البيضاء.
سأشرع في سلخ الجلد المسموم .
هل سيتألم ؟
لا إن يديَّ ماهرتان .
شرع المضمد يسلخ الجلد المحروق ويرميه في سلة الأوساخ أما المرأة فكانت تراقب الوجه المخدد بالرماد وهو يتململ تحت ألم مكتوم ،تشاهد العينين الذابلتين تتفتحان مثل زهرتين ميتتين ، يوجعها المشهد الحزين فتعطي ظهرها له،تخطو صوب النافذة المفتوحة وترنو إلى السماء المطلة على الضيم،تعتدل الشماعية في رأسها لترى عن كثب معلمها المجنون جاثياً يروي للمجانين المتحلقين حوله كالصغار رحلته مع العصافير المهاجرة تحت سماء صافية زرقاء .
لن أقوى على التحليق معكم ، قال مجنون بدين .
لا تخف قال الذي بجانبه ، سيهبك المعلم العاشق جناحيه .
ارتقى المعلم السلّم اللولبي المؤدي إلى سطح البناية العالية وخلفه سرت جحافل المجانين يقودها حلم الطيران إلى الأعالي،لم يكن المانع إلا باباً يغلق بجسده الخشبي الطريق على الممسوسين بحلم التحليق .
هشّموه ؟ صاح المعلم بصوت تردد رجعه المرتعش في النفوس الحالمة .
تداعى الباب الموصد أمام إصرار الشمل الواحد وتناثرت أشلاءه المتراصة إلى شواظ رقشت بلاطات السلم الحجري،بدّد طوفان النور الغازي ظلمة الرواق الشديدة وأضاء الدرب للجنون المتحفز ليخطو نحو السطح العريض،تناثر المجانين على مرأى من معلمهم الذي أومأ إليهم برص الصفوف والتلاحم قبل العروج، انصاعوا له فأمرهم يالتخلي فوراً عن كل مايشدّهم إلى الأرض، خلع المساكين ملابسهم المتسخة أمامه بلا حياء معلنيين عن عريهم المطلق،اغتاظ المعلم الغاضب من شدة غبائهم وصاح بصوت تناقلته الشماعية بأسرها
كل ما يربطنا بهذه الأرض أحذيتنا سنخلعها الآن ونصعد إلى السماء .
خلع المجانيين أحذيتهم المطاطية واعتلوا السور النحيف للبناية الدائرية،تناثروا على محيطها الواسع مزخرفين فضائها المبتور بلوحة فريدة للانتحار الجماعي،انتصبوا بعريهم المطلق ونظراتهم الشاردة تلتفت بريبة إلى المعلم المأفون،أمرهم بالقذف فتداعت الأحذية من السماء مع الأسمال البالية على رؤوس الموظفيين الحائرة،ارتطمت بالأرض لترتد على هيئة ربوات وأنصاب فككت شفراتها الغيبية بصيرة المعلم الهائجة ودفعته إلى التصريح على الفور .
الآن الآن وليس غداً .
ما العمل صاح المدير بعد أن نفخ في مكبّر الصوت المصوّب إلى السماء .
الدخان ، قال من كان إلى جانبه وأضاف بثقة الواثق من نفسه تماماً .
لنفرش الأرض لهم بالسكاير والشخاط ،إنها كمين ناجع لإحباط المؤامرة .
استهوت الفكرة الخبيثة عقل المدير الأخبث فأمر بفرش الأرض وتغييبها بالسكاير والشخاط،حضرت الناقلات بسرعة البرق وقاءت مافي جوفها من بضاعة قاتلة،غصتْ أرض المصحة بالعلب الممنوعة ووشّحت وفرتها الأنصاب المتواضعة للأسمال البالية والأحذية العتيقة،تطلّع المجانيين المتأرجحين على خيط الجنون الرفيع بالسكائر المثيرة ، أغرتهم ألوانها العديدة وأحجامها الكثيرة وأشعلت في بواطنهم اليابسة شرارة النيكوتين،هبطوا مستسلمين لنداء المتعة القاتلة مخلفّين المعلم الحافي وحيداً على الحافة الحادة ينظر إلى الهرج العجيب وعيناه ترنوان إلى السماء الخالية من الطيور .
أنزلوه ، صاح المدير المنتصر ومكبر صوته يتجه الآن إلى المجانين .
هيا انزلوه ، صاح الذي بجانبه بعد أن انفرجت أسارير مديره المتجهمة.
صعدوا إليه بسرعة منقادين لنداء المدير مثلما هبطوا عليه بسرعة منقادين لنداء الدخان،انهالوا عليه جميعاً بالركل والصفع والشتم و لم يتركوا في جسده العاري فسحة إلا ووسموها ببصمة قاسية،لم يسّتر وجهه عنهم ولم يرد عليهم،أذعن كما يذعن الطفل الآثم لأبيه مسلّماً جسده المغلوب للمجانين ليعبثوا به بوحشية وجنون ،سال الدم من كل بوصة في جسده النازف ولم يفكر حتى في الدفاع عن نفسه ،هوى كالشجرة المقطوعة متداعياً على الأرض المغشوشة، حملوه عالياً كالجنازة الغالية ومضوا به صوب المدير يبكّون، كان المعلم المرفوع على هوم الرؤوس يئن ويهذي ويصيح .
لماذا،لماذا،لماذا.
حمموه من الدم وطبّبوه فوراً ريثما أوقّع إخلاء السبيل . قال المدير
كان الإخلاء من المصحة سبيله الوحيد إلى خلاص ترسمه له وساوسه القاهرة بالنار لذا قرر كما لم يقرر من قبل أن يحيل الجسد النحيل إلى رماد يتسامى في الهواء ، تلوّعه رغبة السمو الجارفة فيغادر غرفته العلوية وينزل إلى باحة بيته الضيقة ، يبحث في زوايا البيت الفارغة عمّا يوقد به جسده البارد ، تقوده عيناه الملتمعتان إلى المرآب ، تعثر يداه المرتعشتان على البنزين في حقيبة سيارته السوداء ، يصّبه بانتشاء على رأسه ويهرع كالملهوف مرتجفاً من البرد إلى المطبخ ، يحتضن النار بشوق فتتصاعد ألسنة النار منه ومعها تتصاعد ألسنة أحلامه الوردية،يرقص مسروراً في الباحة المستعرة غير عابئ باحتراق الجسد العليل ،يفرد جناحيه بقوة محاولاً التحليق مع الدخان فتثب عليه أيادٍ مختلفة من الجوار ويتناهى لرأسه المحترق زعيق وعويل وصراخ .
اعتقوني لقد أعتقتُ جسدي ،يقول.
اتركوه يتمّم رقصته الأخيرة إنه ميت لامحال ،يقول أبوه المنكوب بابنه الوحيد.
لاتتركوه ، إنه ولدي ،احملوه إلى المشفي ،إنه يحترق ،تقول أمه المنكوبة بالفقد الأكيد .
آه .
تزفرها رئة الهواء الساخنة في وجه الحشد المتحلق حول المعلم المتوهج،تلسعهم في وجوههم الساهمة فينفّضون من حوله تباعاً،يتلاشون جميعهم في الغياب مخلفين امرأة،تنفرد في حزنها في المشهد الكئيب،ترفع رأسها للسماء لترى غيوم ثقيلة تُنذِر بموت وشيك ،تطأطئ رأسها لتراه وحيداً في الردهة الخالية على سرير الفجيعة يغط في احتضار عميق،تنتصب على رأسه بيأس وتصغي بخوف لشخير الموت المتقطع،تخطو صوب الباب الموصد ، تفتحه وتستغيث.
ياطبيب ،ياطبييييييييبببببببببببب
يستوقفها صوته المنكسر .
إلى أين ؟
إنك حي ،تقول له.
أجل وسأحلق أخيراً.
تعود وتبتسم في سرها عندما تتذكر وقفته عارياً بلا حذاء على شفا الحافة العالية،تذكّرهُ بنصب الأحذية الكبير في وسط الشماعية،تذكّره فيصعد الشخير من رأسه مهدداً وجوده القصير بالغياب ، ترجرجه بقوة فيفتح عينيه بصعوبة بالغة ثم يغمضّهما بسهولة وينام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
جهاد كاظم مدرس لمادة اللغة العربية ولد في كركوك**** عام 1968ومات منتحراً فيها في30 / 10 / 2010
* سجن التسفيرات المركزي : سجن كبير يستقبل المجرمين الخطرين من جميع محافظات العراق ومقره في العاصمة بغداد.
** الشماعية : أكبر مصح للأمراض العقلية في بغداد.
*** الشخاط : علب الكبريت.
**** كركوك : محافظة عراقية يقطنها كل أطياف المجتمع العراقي.
ألأستاذ المتألق قاسم فنجان .. أدام الله ألَقَك
أنك تشتغل على ثيمة تتشظى منها ثيمات هائلة
وتكثف صورها بمفردات لها كفاءة توصيلية مذهلة
وعلى سبيل المثال
جملة ( تتقاطر ذكرياته كالعزاء )
هي ليست جملة تزويقية ، بل هي صورة للقهر المتكرر
وجملة ( يندفع بكل ما أوتي من جوع )
اختزلت الكثير من الشرح والإسهاب لرسم واقع البطل المرير
والأمثلة كثيرة .. كثيرة.
وعود على بدء حيث الثيمة
أراك اشتغلت على الـ ( لماذا ) التي اشتغل عليها الصوفيون والوجوديون والعدميون والتنويريون
واشتغل عليها رائد مسرح الصورة العراقي الدكتور صلاح القصب ، في مسرحية الشقيقات الثلاث لتشيخوف ، وكان محدثك الفقير مساعد مخرج في هذا العمل
حيث اشتغلنا على السؤال المحيّر .. لماذا نعيش ، لماذا نموت ، لماذا يخلق الإنسان.
لكنك ، وبوعي فلسفي كبير اشتغلت عليها من زاوية القهر .. وهذه فلسفة ناشئة في رحم إنسانية هائلة ، لايعيها إلا نبيل وغيور.
وأذهلني ربطك لصورة الطيران المتحررة في المعتقل وفي المصح العقلي .. وهذه ثيمة بحد ذاتها.
فالطيران سمو ورفعة عن أرض دنسها الساسة ، والبلطجية الرعاع السوقة ، وجل رجال الدين الذين لا يفهون التسامح الألهى ، ومنشغولون منذ عقود بتفصيل الأقمشة الخضر .. وبطل كـ ( جهاد كاظم ) لايستسيغ الوحل بل يتعمد بالمطر ، ليبقى محلقاً في سماوات مكتظة بالأدعية والنقاء.
وما إشارتك إلى خلع الأحذية إلا هاجس الورع واحترامك للفضاء المقدس / ألسماء .. باعتبارها دار عبادة طاهرة..
أما إحراق المسجد ، والإشارة إلى أن الشيخ كان أعمى .. فلها مدلولات واضحة ، لتسيد التيوقراط ، وما تؤول إليه الأمور إثر فتاواهم المتطرفة.
حقيقة ياسيدي أني مزحوم بالأفكار والتأويلات .. فنصك هذا يحتاج إلى دراسة موسعة شاملة .. وهذا ما سأفعله قريباً إن شاء الباري سبحانه وتعالى.
أخيراً وليس آخِراً .. لقد أبهجتني رغم مرارة الأحداث
وفقك الله ، ودمت مانحاً للقص البهاء.
أستاذ قاسم .. أيها المؤلّف الذي يعيش داخل الحروف ..
تحياتي لروحك ولي سؤال
كيف تكتب وكأنك تعيش الحالة هذا مالاحظته بنصوصك أيها الحبيب
ما هذه المخيلة الماسية التي تملك
سأعود لقراءة النص كاملا بعد الإفطار
تحياتي لك أيها المبدع الكبير
التوقيع
أنا شاعرٌ .. أمارس الشعر سلوكا وما أعجز .. أترجمه أحرفا وكلمات لا للتطرف ...حتى في عدم التطرف
ما أحبّ أن نحبّ .. وما أكره أن نكره
كريم سمعون
مرشدي الأغلى المبدع عمر مصلح :
أولاً :أقبل رؤوس الأنامل التي تكبدّت عناء ترصيع وجه العاشق المضطرب بعلامات بيضاء ستظل متلألئة في متن النص مثل النجوم الساطعة !
ثانياً : أنت أيها الزاهد الوحيد الذي يتجلى لك مكنون باطني المزدهر بفيوضات سردية ترنو لبلوغ حضرة قلبك المشعة بالنور الكثير !
دمت لي و للنبع و للسرد ياعمري المصلح !
شاعر النبع المبدع عبد الكريم سمعون :
تسورني كلماتك الرائعة بودٍّ ندي يرطب يباب ماحولي من حياة ناشفة لأعلن لك وعلى لسان العاشق قبل موته في النص:
" لاشئ في الأفق غير فجر أرمد و شمس عمياء لن تأذن لي أبداً بنهار جديد "
حروفك الكريمة ياسمعون تلزمني بالتحليق الى ضفة قد سبقتني إليها !