مسترخ ٍ تحت شجرة وفيرة الظل ، تتوسط حديقة خضراء بجذع سمين تتيح لمن يتكي ء عليها جلوسا ً مريحا ً للغاية ، على بعد أمتار يقف مسند يحمل لوحة تشكيلية معبرة انتهى من رسمها قبل قليل ، اعتبر نفسه مشاهدا ً وظل يقارن بين سماء اللوحة والسماء الصافية التي تضفي على الحديقة واللوحة رونقا ً وبهاء.
السماء بلون رصاصي ، لكن الرسامين يرسمونها بلون سمائي ، حتى بالصورة الفوتوغرافية المأخوذة بكاميرات ذات تقنيات عالية تبدو سمائية ، مثلما الأرض تظهر في اللوحات جوزية اللون وهي بالحقيقة ليست بهذا الشكل الداكن ، لا يوجد لون ترابي – يحدث نفسه - لطول ما كان ينظر للوحة أحسّ بضبابية وعشو في عينيه ، إسترخى أكثر ، بدا أنه راض ٍعن لوحته ، الشجرة بدأت تعطي ظلا ً أوسع ، العصافير تتوافد على اللوحة ، أدهشه المشهد ، خاصة بعدما نزلت إعداد كبيرة منها لتقترب من اللوحة التي هي عبارة عن مجموعة طيور تحتضر تحت وابل من أغصان شوكية من أشجار السدر أو شجيرات ورد الجوري المنزوعة الأزهار إلا من دبابيس خشبية ذات رؤوس حمراء حادة موجهة صوب صدور الطيور التي تنظر إلى الرسام بتوسل .
كان يتمنى أن يمر أيّما إنسان لعله يعبر عن إعجابه باللوحة ، أو يسأله عن معناها ، إنها المرة الاولى التي يرسم فيها خارج منزله ، قرأ قبل أيام أن فان كوخ وبيكاسو وسلفادور دالي يرسمون في الهواء الطلق ، فحمل عدته وخرج ، تداركه المساء كثيرا ، اللوحة الزيتية لا تجف بسرعة – عدته كبيرة – ربما إذا ما حمل العدة والمسند والأصباغ الزيتية سيلامس جسده اللوحة ، بدأ بالرسم منذ الصباح ، بدت عليه علامات الضجر لولا تبددها نشوة إكماله اللوحة بالشكل الذي يتمناه ، العصافير عادت على الشجرة جماعات جماعات وأخذت الزقزقات تصم الآذان ، (الحاجة ام الإختراع ) ، تذكر هذا المثل المستهلك فوضع الأصباغ بجيوبه المتعددة والفرشاة بإذنه والمسند بيده اليسرى متأبطا ً كرسيا متحركا ً صغيرا ً كان يجلس عليه أثناء تنفيذ اللوحة التي وضعها على رأسه وغادر الحديقة وسط إستهجان الناس وبعض الأطفال ، كان وجه اللوحة إلى السماء ، تلك اولى الامنيات سقطت من حساباته حيث كان يتمنى أن يراها كل من يصادفه .
قبل وصوله المنزل ساعده بعض الصبية وإحدى أخواته الصغيرات فخففت من أعبائه ، أنزل اللوحة من فوق رأسه لمسافة قليلة متجنبا ً أن تلامس جسمه متيحا ً في الوقت ذاته لبعض المارة مشاهدتها إلا أن الزقاق كان فارغا ً من الناس تقريبا .
تجمع أفراد أسرته ، كانت زميلات أخته في الجامعة يهممن بالخروج فأبدين إعجابهن الكبير باللوحة وطريقة الرسم – الله.. لوحة رائعة ..جميلة – قالت إحداهن فأثنت عليها الأخرى ، أحس بنشوة وزهو كبيرين إلا انه شعر بخدر يده اليمنى ، فاشتكى لإمه فأوعزت السبب لمسكه الفرشاة منذ الصباح وحتى المساء ، بعد تناول طعام العشاء مباشرة غط في نوم عميق تخللته أحلام رائعة على حد تعبيره صباحا ً .
كان صباحا ً مشمسا ً مع نسمة برد خفيفة وعذبة للغاية ، الهواء يداعب شعره المسترسل الخفيف فداعب هو الآخر فروة رأسه بأصابعه الجميلة ، - قلمّا شاهدت ُ أصابع رجل بهذه الطراوة – قالت إحدى صديقاته ذات مرة -.
نظر إلى أصابعه وهنأها بإنجاز اللوحة .. قال لإمه وهو يودعها بعد إنتهاء إجازته :
- حال عودتي في الإجازة القادمة سأقيم معرضي الشخصي الثاني ، أنا رتّبتها ، حذار أن يلمسها أحد ، اللوحة الأخيرة لم تجف بعد .. انتبهي إليها من الغبار ، فانه يلتصق بها ويفسد اللون .
منذ طفولته يملأ الحيطان برسوماته ، يحلم أن يكون رساما ً كبيرا ً تكتب عنه الصحف ، هذا ما قالته أمه ورشقت خلفه طاسا ً من الماء وهو ملتحق الى جبهة القتال .
حط ّ رحاله في الخط ألأمامي للجبهة واستقبله اصدقاؤه الجنود – وصل الحلو- كان جميلا سريع البديهية، - ماهي آخر أخبارك ؟ سأله أحد الجنود فأجاب :
- رسمت حمامة وطارت .
فضحك الجميع ، كان ضحكا ً مصطنعا ً رغم قوة الطرائف والنكات ، حيث كان القصف شديدا ً ففرقهم أكثر من مرة .
بعد نوم ٍ ثقيل فتح عينيه ، وجد نفسه مواجها للسماء ، كانت السماء بيضاء بلون الثلج ، أغمض عينيه ثانية ، فتحها بعد ساعة عندما خف مفعول المخدر ، في الردهة وجد أمه وزميلة اخته تحدثان الطبيب الذي أشرف على عملية بتر ذراعه اليمنى ، مسد الطبيب على جبهته الناصعة البياض وشعره المسترسل ، بينما لم تتمالك أمه نفسها فأجهشت بالبكاء ، لامها الطبيب على ذلك كثيرا ً .
- كيف حالك يا مشتاق؟ زالت مرحلة الخطر ، حدثه الطبيب في محاولة لاستعادة وعيه
- أي خطر؟
- كاد الكنكري أن يصعد الى جسمك لولا أن نستأصل ذراعك بسرعة .. لو كان في يدك اليسرى ، ربما أثّر على قلبك وحدثت الكارثة ..
- الكارثة وقعت يادكتور ، لا أستطيع الرسم باليد اليسرى..
قالها بأسى وغط في نوم عميق متوسدا ً علبة أصباغ زيتية مع لوحته الأخيرة – طيور تحتضر- ..
هل أتكلم عن القابلية في جعلنا نسرع القراءة هنا ونجعلها أبطأ هناك ؟
أم أختصر الطريق وأتكلم عن تاريخ مر بنا ومازال يملك أدواته ... أو لوعات مرت بنا ومازالت تأبى الرحيل.. أو عن أقدار مرت بنا خسرنا فيها قيما عديدة وكنوزا عديدة وحعلت الساحة فارغة تشكو رحيلهم ومازالت متمكنة للتو ..
فكل شئ ممكن توفيره .. نعم كل شئ .. ومنها ماحمله معه الرسام عائدا إلى بيته حينما ( تداركه المساء كثيرا ) إلا الإنسان صعب أن نلغي إبداعاته عن أن يراها آخرون
أستاذ نا القدير
كانت لوحة جاءت منك هنا حوت لوحات عديدة فدعنا نتأمل بها مرات ومرات